سوسة..تاريخ وأحداث وذكريات
الكاتب:د. إدريس فضيل
سوسة قرية قديمة تجلس في حضن الجبل وتغسل قدميها في شاطئ البحر ، وآثارها اليونانية واضحة مثل حمام كيليوباترا ، ومعالم أخرى ، ويزعمون أن الزيت كان يعصر في شحات ويصب في ساقية يجري فيها حتى سوسة، حيث يصدٌر إلى الخارج ، فإن صحت الرواية فإنها تعني المكانة الاقتصادية الكبيرة للقرية ، ومن آثارها دار أحضر إليها عمر المختار حيث قضى فيها ليلة رحٌل بعدها إلى بنغازي بحراً ، وفيها سوق قديم دكاكينه عتيقة
في عهد الطليان كانت عاصمة الإقليم لمؤهلاتها البحرية والتجارية والإدارية ، فهي قريبة من البحر وميناؤها صالح للاستيراد وموقعها متوسط في الجبل ، كانت عاصمة الطليان قبل صعودهم إلى شحات فأنشأوا بها مدرسة وميناء ومطارا ومتصرفية وقيادة ، وأخذ الناس يهاجرون إليها التماساً للرزق لنشاطها التجاري ، وتبدو في ذلك العهد أكثر ازدحاما وتجارة منها اليوم ، ولكن ظروف الحرب اقتضت تقدم الحكومة إلى الأمام ، وصعودها إلى شحات للتحكم في الجبل وإدارة الحرب بيسر .
من مميزاتها مجموعة القريت، وهم قوم لهم حياتهم الاقتصادية والاجتماعية ، ولهم لهجتهم إلى جوار العربية ، يتعلمون ولكنهم لا يهتمون بالوظائف الحكومية ، ويفضلون الأعمال الحرة وحين أكمل إسماعيل جملي تعليمه في الجامعة واشتغل بالدولة كان أمراً غير معتاد .
في عهد الطليان كانت عمتي قد رحلت مع زوجها من البيضاء لتسكن سوسة ، فسكنت حقفة في الفلترو ، ومات الجميع قبل أن يدلونا عليها ، كان زوجها بناء واشتغلت هي بالخياطة وغسل الملابس ، وكان معها أخواها الكبير يعمل والصغير يدرس ، وكان عمي كثيراً ما يقص سيرة دراسته هناك مع طلاب منهم حسين مازق .
كان أبي هابطا إلى سوسة في سيارة نقل ، قد حملت فوق عبوتها من العمال القادمين من القيقب للعيد مع أهلهم ، فانقلبت السيارة في منحدرات العقبة ، ووقع العمال كلهم فوق أبي فصار في حالة حرجة ، حيث سقطت أربعة أضلاع من قفصه الصدري إلى الداخل ، فكان إذا تنفس ارتفع جلد صدره أمامه ، فحمل إلى القرية مغمىً عليه ، فلما وقفت عليه ابنة عمه صرخت صرخة واحدة خرجت معها روحها ،أمٌا هو فقد عولج في مستشفى سوسة ، حيث وقضى تسعين يوماً ملقىً على ظهره ، بينما على صدره دائماً أكياس من الثلج ، خرج بعدها معافى ، ونتمنى أن نعثر على آثار ذلك المستشفى .
أفراد وحكايات في القديم :
كانت عمتي تقص علينا حكايات عن أفراد منهم : ابريمة الأسود المشقوق الشفتين، كان يأكل بلوز الكرموس فتنتفخ شفتاه الغليظتان فلا تجتمعان ، وكان يبيع الكرموس ويبرح عليه فيقول : كرموس نزٌط نارا نارا ، كوموس موش نزط نارتين نارتين.
وتزعم الرواية أن بريمة هذا كان صالحا حتى إن جماعة سافروا للحج فقابلوه على عرفات مع أنه لم يغادر سوسة .
ومنها شخصية الشيخ بالقاسم الغرياني الإمام والقاضي ، وتذكر أنه كان مرحا وصالحا وتروي قصته مع موسى الغماري وسيدي بلقاسم الحمري وكيف كان يزورهم ويشغل نفسه دائما بالقرآن وأساء الله الحسنى ليحفظها ، وكيف أنه مرٌض أمه المريضة بالطاعون سراً ودفنها سراً ، خوفاً من أن يحرقها الطليان تفادياً لانتشار العدوى .
ومن أروعها قصة السيدة المتصوفة، التي كانت تصوم ثلاثة أشهر متتابعات وهي السيدة رابعة ، وكانت مفرطة السمنة منهومة بحب الطعام ، فحين يحل الفطر كل يوم تعد لها مائدة ضخمة ، عليها مالا يحصى من ألوان الأطعمة والفواكه والحلويٌات ، فتظل تأكل كلٌ ساعات الليل حتى تأتي عليها كلها مع أذان الفجر .
وحول سوسة جرت أحداث معركة بطومة المشهورة في تارخ الجهاد، حين هاجم المحافظية القرية ، فتصدٌى لهم الطليان بقوات كبيرة فقتل في المعركة كثيرون .
وحادثة أخرى طريفة، حيث عثر رجل يدعى بوجارالله ـ وكان حارساً للشاطئ ـ على خزنة من العملة الذهبية ، كانت قد سقطت بها طائرة على الشاطئ في الحرب الثانية ، وقد أثارت الحادثة فضول كثير من الناس وتساؤلاتهم ، وفي القصة جوانب مجهولة حتى الآن .
في عهد الاستقلال أنشئت بها مدرسة ثانوية داخلية، تقاطرت عليها وفود الطلاب من جهات برقة ، فلعبت دوراً في خدمة الثقافة والتعليم وتخريج قياديين للدولة ، وكان ذلك بفضل الله واهتمام الدولة ، ثم بفضل طائفة من الرجال الأكفاء الذين نجحوا في إدارة المدرسة ومنهم سالم سلطان ومحمد الهنيد ومحمد بوفروة المشرف الشهير، ومجموعة من المعلمين القديرين ، ومنهم واحد خلٌد سوسة بقصيدة شهيرة أولها :
أرأيت سوسة والأصيل يلفٌها في حلة نسجت من الأضواء ؟
أمٌا أنا فلقد أخذت بسحرها لمٌا وقفت هناك ذات مساء
البحر يبدو من أمامي موغلاً في الأفق والجبل الأشم ورائي
كل تلك الأحداث والمعلومات ، جعلت لسوسة في نفسي مكانة وقداسة قبل أن أراها ، ولكن السفر إلى سوسة لم يكن يخلو من مشقاتً لقلة المواصلات ، ولذلك لم أرها إلا متأخرا ، حين قدمت إليها مع طلاب المعهد الديني ، لمباراة تقام هناك مع طلاب المدرسة ، ثم أقمت فيها شهرين حين كلفنا بإنشاء معسكر العمل التطوعي والإشراف عليه ، وكانت لنا ذكريات وأحداث ، وكانت سوسة تتكون من شارع واحد ومبانيها قديمة ، وفيها مسجد واحد صغير عتيق .
معسكر العمل التطوعي 1968م
رشحت مجموعة من الشباب للتدريب على قيادة معسكرات العمل التطوعي ، منهم عبد العاطي خنفر وبشير امبارك وادريس فضيل وفتحي بو غزيل وفتحي كلاي ، وعاشور الشويهدي وادريس الشاظوف ، وألحق بهم إبراهيم الأشيكع وعبد الله بو سلوم ـ من قادة الكشافة ـ فسافر الأولون لحضور معسكر إعداد في غابة جود دايم بطرابلس ، ثم رجعوا ليتولوا قيادة معسكر البيضاء الذي تقرر إقامته في قرية سوسة ، بقيادة الأشيكع ، والتحق بالمعسكر شباب كثيرون من القرى المجاورة كالفائدية وشحات ومسة وغيرها .
وكان من حوادث المعسكر : أن بشير امبارك أخذ يطارد ثعباناً أسود ، حتى يقبض عليه فيعضه حتى يسيل دمه ، ولكن بشير يحبسه ثم يحنطه في علبة زجاج فازٌو ، ويتخذه للعرض
وفي تلك الفترة جاءنا الأستاذ سليمان البيرة ، وكان حينذاك موظفاً بمكتب شيخ الجامعة، ولكنه كان يوطد مركزه ، ويبحث لنفسه عن اسم وشهرة ، فكان يركب كل موجة يتوسم فيها أن تحمله إلى مقصده ، جاءنا محاضراً باسم شيخ الجامعة هكذا قال ، ولم يكن شيخ الجامعة مكلفاً بالمحاضرة لنا ، ولكن الأستاذ رأى اهتمام الدولة بهذا الاتجاه فأحب ألاٌ تفوته الموجة ، فطاف على المعسكرات في مرتوبة وسوسة وبنغازي يعرٌف بنفسه ويحاضر فيها .
وحدث أن زارت المعسكر طائفة من فتيات معسكر طرابلس ، فاستقبلن في سوسة بالحفاوة والترحاب ، وكلٌفت بالتحدٌث إليهن ، فثارت مجموعة من شباب الفائدية يحتجون على كلامي ، غيرة من موقفي ، ويطالبون بعزلي ، وربما كانوا على حق ، فكانت مشكلة صعبت معالجتها في حينها .
وكان إدريس الشاظوف يتولى قيادة التموين ، فكان يغادر كل صباح إلى البيضاء لإحضار المواد الغذائية طوال مدة المعسكر . وكان فتحي بو غزيل سريره يلاصق سريري فكان يحكي كل الوقت . فكان المعسكر فرصة وطدت العلاقة بيننا .
ذات ليلة فجأة زارنا رئيس الوزارة عبد الحميد البكوش ، فأقمنا له حفلة غنائية وتمثيلية ، وأظننا كنا موفقين فيها رغم عنصر المفاجأة .
وكان الذي خطط لنا الملاعب ، وأشرف على بعض الأنشطة الرياضية في المعسكر هو الأستاذ إبراهيم سليمان احتيرة ، وهو من رجال التعليم فاضل دمث الأخلاق .
وحضر إلينا في المعسكر مدرب رفع الأثقال في البيضاء ـ وأظن أنه من عيت الجهاني من بنغازي ـ بصحبة مجموعة من الرباعين الذين يدربهم ، فأقاموا لنا حفلة لرفع الأثقال ، شاركت فيها مجموعة من الهواة والمتدربين ، فكانت ناجحة ، ورفع المدرب نفسه أكثر من قنطار وربع . وأذكر أنه في تلك الليلة عند المغرب وبينما كنا نجهز للحفل جاءني عمي عبد السلام طاهر رحمه الله ، وكانت بيني وبينه مودة ، وأصر على أن يصطحبني لأتعشى معه عند بعض معارفه في سوسة ، فاعتذرت ولكنه أبى إلا أن أذهب معه ، فذهبت وأنا حزين لترك الحفل .
وتركز نشاطنا في القرية على تنظيفها ، وطلاء مبانيها وصيانة بعضها ، وإثارة حركة ثقافية واجتماعية في سكانها ، وقد تحقق شيء من تلك الأهداف في حدود ما أتيح للمعسكر من إمكانيات ، وأهم من ذلك أننا بنينا جسراً من المودة بيننا وبين الأفاضل من السكان .
وهناك حادثة حزينة لم تبرح خيالي منذ لحظة وقوعها ، فقد حدث أن أحد شباب القريت ويدعى زفير كان في رحلة إلى مصر فوقع له حادث فى عقبة السلوم توفي على أثره ، وسرت موجة من الحزن والألم في القرية عقب وصول النبإ ، وأذكر أن المعسكر بكامله خرج لتشييع جنازة الشاب ، وجئنا نحمل النعش ، وفي مدخل المقبرة وجدنا رجلاً عجوزاً واقفاً ، فتقدٌم ووضع يده على النعش وهوينوح بصوت يقطع نياط القلوب ، و يردد كلمات بلغتهم غير مفهومة، وينهيها بصياح : يا زفيري يا زفيري .
وفي الثمانينيات كلفت مفتشاً للتعليم وكانت سوسة ضمن خطتي ، فتعرفت على مجموعة من رجال التعليم الأفاضل ، وكان لقائي بهم مصدر سعادة لي ، ومنهم الأساتذة فضل الله عبد الصالح وفرج بو امدللة وعيسى النيهوم .
وقيل إن جامعة بنغازي كان مخططاً لها أصلاً أن يكون مقرها قرية سوسة ، كما أن العهد الجديد خطط سوسة لتكون مدينة علمية عالمية متكاملة ، ولكن المشروع تعطل وربما يعاد تجديده . وسوسة ما تزال تتسم بمؤهلات تجعل منها مدينة علمية واقتصادية ، منها موقعها وتوسطها للجبل وطيب هوائها ، ويقال إن عمارها واستعادتها لمكانتها ، مرهون بإتمام الطريق الساحلي الذي يربطها ببنغازي ودرنة . ومن أهم معالمها اليوم الفندق الجديد والمصيف العائلي ومحطة التحلية
الكاتب:د. إدريس فضيل
سوسة قرية قديمة تجلس في حضن الجبل وتغسل قدميها في شاطئ البحر ، وآثارها اليونانية واضحة مثل حمام كيليوباترا ، ومعالم أخرى ، ويزعمون أن الزيت كان يعصر في شحات ويصب في ساقية يجري فيها حتى سوسة، حيث يصدٌر إلى الخارج ، فإن صحت الرواية فإنها تعني المكانة الاقتصادية الكبيرة للقرية ، ومن آثارها دار أحضر إليها عمر المختار حيث قضى فيها ليلة رحٌل بعدها إلى بنغازي بحراً ، وفيها سوق قديم دكاكينه عتيقة
في عهد الطليان كانت عاصمة الإقليم لمؤهلاتها البحرية والتجارية والإدارية ، فهي قريبة من البحر وميناؤها صالح للاستيراد وموقعها متوسط في الجبل ، كانت عاصمة الطليان قبل صعودهم إلى شحات فأنشأوا بها مدرسة وميناء ومطارا ومتصرفية وقيادة ، وأخذ الناس يهاجرون إليها التماساً للرزق لنشاطها التجاري ، وتبدو في ذلك العهد أكثر ازدحاما وتجارة منها اليوم ، ولكن ظروف الحرب اقتضت تقدم الحكومة إلى الأمام ، وصعودها إلى شحات للتحكم في الجبل وإدارة الحرب بيسر .
من مميزاتها مجموعة القريت، وهم قوم لهم حياتهم الاقتصادية والاجتماعية ، ولهم لهجتهم إلى جوار العربية ، يتعلمون ولكنهم لا يهتمون بالوظائف الحكومية ، ويفضلون الأعمال الحرة وحين أكمل إسماعيل جملي تعليمه في الجامعة واشتغل بالدولة كان أمراً غير معتاد .
في عهد الطليان كانت عمتي قد رحلت مع زوجها من البيضاء لتسكن سوسة ، فسكنت حقفة في الفلترو ، ومات الجميع قبل أن يدلونا عليها ، كان زوجها بناء واشتغلت هي بالخياطة وغسل الملابس ، وكان معها أخواها الكبير يعمل والصغير يدرس ، وكان عمي كثيراً ما يقص سيرة دراسته هناك مع طلاب منهم حسين مازق .
كان أبي هابطا إلى سوسة في سيارة نقل ، قد حملت فوق عبوتها من العمال القادمين من القيقب للعيد مع أهلهم ، فانقلبت السيارة في منحدرات العقبة ، ووقع العمال كلهم فوق أبي فصار في حالة حرجة ، حيث سقطت أربعة أضلاع من قفصه الصدري إلى الداخل ، فكان إذا تنفس ارتفع جلد صدره أمامه ، فحمل إلى القرية مغمىً عليه ، فلما وقفت عليه ابنة عمه صرخت صرخة واحدة خرجت معها روحها ،أمٌا هو فقد عولج في مستشفى سوسة ، حيث وقضى تسعين يوماً ملقىً على ظهره ، بينما على صدره دائماً أكياس من الثلج ، خرج بعدها معافى ، ونتمنى أن نعثر على آثار ذلك المستشفى .
أفراد وحكايات في القديم :
كانت عمتي تقص علينا حكايات عن أفراد منهم : ابريمة الأسود المشقوق الشفتين، كان يأكل بلوز الكرموس فتنتفخ شفتاه الغليظتان فلا تجتمعان ، وكان يبيع الكرموس ويبرح عليه فيقول : كرموس نزٌط نارا نارا ، كوموس موش نزط نارتين نارتين.
وتزعم الرواية أن بريمة هذا كان صالحا حتى إن جماعة سافروا للحج فقابلوه على عرفات مع أنه لم يغادر سوسة .
ومنها شخصية الشيخ بالقاسم الغرياني الإمام والقاضي ، وتذكر أنه كان مرحا وصالحا وتروي قصته مع موسى الغماري وسيدي بلقاسم الحمري وكيف كان يزورهم ويشغل نفسه دائما بالقرآن وأساء الله الحسنى ليحفظها ، وكيف أنه مرٌض أمه المريضة بالطاعون سراً ودفنها سراً ، خوفاً من أن يحرقها الطليان تفادياً لانتشار العدوى .
ومن أروعها قصة السيدة المتصوفة، التي كانت تصوم ثلاثة أشهر متتابعات وهي السيدة رابعة ، وكانت مفرطة السمنة منهومة بحب الطعام ، فحين يحل الفطر كل يوم تعد لها مائدة ضخمة ، عليها مالا يحصى من ألوان الأطعمة والفواكه والحلويٌات ، فتظل تأكل كلٌ ساعات الليل حتى تأتي عليها كلها مع أذان الفجر .
وحول سوسة جرت أحداث معركة بطومة المشهورة في تارخ الجهاد، حين هاجم المحافظية القرية ، فتصدٌى لهم الطليان بقوات كبيرة فقتل في المعركة كثيرون .
وحادثة أخرى طريفة، حيث عثر رجل يدعى بوجارالله ـ وكان حارساً للشاطئ ـ على خزنة من العملة الذهبية ، كانت قد سقطت بها طائرة على الشاطئ في الحرب الثانية ، وقد أثارت الحادثة فضول كثير من الناس وتساؤلاتهم ، وفي القصة جوانب مجهولة حتى الآن .
في عهد الاستقلال أنشئت بها مدرسة ثانوية داخلية، تقاطرت عليها وفود الطلاب من جهات برقة ، فلعبت دوراً في خدمة الثقافة والتعليم وتخريج قياديين للدولة ، وكان ذلك بفضل الله واهتمام الدولة ، ثم بفضل طائفة من الرجال الأكفاء الذين نجحوا في إدارة المدرسة ومنهم سالم سلطان ومحمد الهنيد ومحمد بوفروة المشرف الشهير، ومجموعة من المعلمين القديرين ، ومنهم واحد خلٌد سوسة بقصيدة شهيرة أولها :
أرأيت سوسة والأصيل يلفٌها في حلة نسجت من الأضواء ؟
أمٌا أنا فلقد أخذت بسحرها لمٌا وقفت هناك ذات مساء
البحر يبدو من أمامي موغلاً في الأفق والجبل الأشم ورائي
كل تلك الأحداث والمعلومات ، جعلت لسوسة في نفسي مكانة وقداسة قبل أن أراها ، ولكن السفر إلى سوسة لم يكن يخلو من مشقاتً لقلة المواصلات ، ولذلك لم أرها إلا متأخرا ، حين قدمت إليها مع طلاب المعهد الديني ، لمباراة تقام هناك مع طلاب المدرسة ، ثم أقمت فيها شهرين حين كلفنا بإنشاء معسكر العمل التطوعي والإشراف عليه ، وكانت لنا ذكريات وأحداث ، وكانت سوسة تتكون من شارع واحد ومبانيها قديمة ، وفيها مسجد واحد صغير عتيق .
معسكر العمل التطوعي 1968م
رشحت مجموعة من الشباب للتدريب على قيادة معسكرات العمل التطوعي ، منهم عبد العاطي خنفر وبشير امبارك وادريس فضيل وفتحي بو غزيل وفتحي كلاي ، وعاشور الشويهدي وادريس الشاظوف ، وألحق بهم إبراهيم الأشيكع وعبد الله بو سلوم ـ من قادة الكشافة ـ فسافر الأولون لحضور معسكر إعداد في غابة جود دايم بطرابلس ، ثم رجعوا ليتولوا قيادة معسكر البيضاء الذي تقرر إقامته في قرية سوسة ، بقيادة الأشيكع ، والتحق بالمعسكر شباب كثيرون من القرى المجاورة كالفائدية وشحات ومسة وغيرها .
وكان من حوادث المعسكر : أن بشير امبارك أخذ يطارد ثعباناً أسود ، حتى يقبض عليه فيعضه حتى يسيل دمه ، ولكن بشير يحبسه ثم يحنطه في علبة زجاج فازٌو ، ويتخذه للعرض
وفي تلك الفترة جاءنا الأستاذ سليمان البيرة ، وكان حينذاك موظفاً بمكتب شيخ الجامعة، ولكنه كان يوطد مركزه ، ويبحث لنفسه عن اسم وشهرة ، فكان يركب كل موجة يتوسم فيها أن تحمله إلى مقصده ، جاءنا محاضراً باسم شيخ الجامعة هكذا قال ، ولم يكن شيخ الجامعة مكلفاً بالمحاضرة لنا ، ولكن الأستاذ رأى اهتمام الدولة بهذا الاتجاه فأحب ألاٌ تفوته الموجة ، فطاف على المعسكرات في مرتوبة وسوسة وبنغازي يعرٌف بنفسه ويحاضر فيها .
وحدث أن زارت المعسكر طائفة من فتيات معسكر طرابلس ، فاستقبلن في سوسة بالحفاوة والترحاب ، وكلٌفت بالتحدٌث إليهن ، فثارت مجموعة من شباب الفائدية يحتجون على كلامي ، غيرة من موقفي ، ويطالبون بعزلي ، وربما كانوا على حق ، فكانت مشكلة صعبت معالجتها في حينها .
وكان إدريس الشاظوف يتولى قيادة التموين ، فكان يغادر كل صباح إلى البيضاء لإحضار المواد الغذائية طوال مدة المعسكر . وكان فتحي بو غزيل سريره يلاصق سريري فكان يحكي كل الوقت . فكان المعسكر فرصة وطدت العلاقة بيننا .
ذات ليلة فجأة زارنا رئيس الوزارة عبد الحميد البكوش ، فأقمنا له حفلة غنائية وتمثيلية ، وأظننا كنا موفقين فيها رغم عنصر المفاجأة .
وكان الذي خطط لنا الملاعب ، وأشرف على بعض الأنشطة الرياضية في المعسكر هو الأستاذ إبراهيم سليمان احتيرة ، وهو من رجال التعليم فاضل دمث الأخلاق .
وحضر إلينا في المعسكر مدرب رفع الأثقال في البيضاء ـ وأظن أنه من عيت الجهاني من بنغازي ـ بصحبة مجموعة من الرباعين الذين يدربهم ، فأقاموا لنا حفلة لرفع الأثقال ، شاركت فيها مجموعة من الهواة والمتدربين ، فكانت ناجحة ، ورفع المدرب نفسه أكثر من قنطار وربع . وأذكر أنه في تلك الليلة عند المغرب وبينما كنا نجهز للحفل جاءني عمي عبد السلام طاهر رحمه الله ، وكانت بيني وبينه مودة ، وأصر على أن يصطحبني لأتعشى معه عند بعض معارفه في سوسة ، فاعتذرت ولكنه أبى إلا أن أذهب معه ، فذهبت وأنا حزين لترك الحفل .
وتركز نشاطنا في القرية على تنظيفها ، وطلاء مبانيها وصيانة بعضها ، وإثارة حركة ثقافية واجتماعية في سكانها ، وقد تحقق شيء من تلك الأهداف في حدود ما أتيح للمعسكر من إمكانيات ، وأهم من ذلك أننا بنينا جسراً من المودة بيننا وبين الأفاضل من السكان .
وهناك حادثة حزينة لم تبرح خيالي منذ لحظة وقوعها ، فقد حدث أن أحد شباب القريت ويدعى زفير كان في رحلة إلى مصر فوقع له حادث فى عقبة السلوم توفي على أثره ، وسرت موجة من الحزن والألم في القرية عقب وصول النبإ ، وأذكر أن المعسكر بكامله خرج لتشييع جنازة الشاب ، وجئنا نحمل النعش ، وفي مدخل المقبرة وجدنا رجلاً عجوزاً واقفاً ، فتقدٌم ووضع يده على النعش وهوينوح بصوت يقطع نياط القلوب ، و يردد كلمات بلغتهم غير مفهومة، وينهيها بصياح : يا زفيري يا زفيري .
وفي الثمانينيات كلفت مفتشاً للتعليم وكانت سوسة ضمن خطتي ، فتعرفت على مجموعة من رجال التعليم الأفاضل ، وكان لقائي بهم مصدر سعادة لي ، ومنهم الأساتذة فضل الله عبد الصالح وفرج بو امدللة وعيسى النيهوم .
وقيل إن جامعة بنغازي كان مخططاً لها أصلاً أن يكون مقرها قرية سوسة ، كما أن العهد الجديد خطط سوسة لتكون مدينة علمية عالمية متكاملة ، ولكن المشروع تعطل وربما يعاد تجديده . وسوسة ما تزال تتسم بمؤهلات تجعل منها مدينة علمية واقتصادية ، منها موقعها وتوسطها للجبل وطيب هوائها ، ويقال إن عمارها واستعادتها لمكانتها ، مرهون بإتمام الطريق الساحلي الذي يربطها ببنغازي ودرنة . ومن أهم معالمها اليوم الفندق الجديد والمصيف العائلي ومحطة التحلية