«باهي» يا ليبيا الحرة (2 - 2)
جريدة الشرق السعودية
13-5-2012
افتتح مهرجان طرابلس العالمي للشعر، تحت قوس حجري غائر في أعماق المدينة القديمة المطلة على البحر المتوسط، في مساء 28 أبريل الفائت. رقت الشمس ما أن عزفت فرقة المالوف الليبي، التدريجة الطرابلسية، هابطة عبر البوابة التاريخية وكأنما افتتاحية عهد يعد بالأمل والبهجة، رقص حكيم المهرجان وكنا نعرفه متأملا، مقتصدا في تعبيره، ولا ينطق عن هوى، فاذا به يطلق أجنحة الطفل فيه، ويوقد بشمعته مهج الجالسين، ليفتحوا صدورهم لهواء غير مستعمل. على وقع عواطف مشبوبة، صعد الشعر بأناة، لغات متعددة، جمعها الحب وصعد بنا درجة درجة، لامس أفئدة حاضرة البال ومنتشية الخاطر. ومنذ غيمة الافتتاح جرى الشعر، صباحا ومساء، لثلاثة أيام خاطفة، مهرجان أسهم في وضع لبنته الأولى شباب وشابات، تقودهم أرواح ليست قابلة للاستسلام. سرقنا ما تبقى من اليوم الرابع في رحلة إلى الجبل الغربي، متوقفين عند موجة لم تفقد صبرها أبدا، على شاطئ صبراته، حيث ترجلنا مدهوشين أمام شموخ أعمدة تنتصب كأنها الأبد، قلاع تاريخية عبرت أزمنة وأحقابا، لم يقو الظلام على محوها، منحوتات تخفت قرونا، في باطن الحجر وآن لها أن تمد أجسادها الناجية بكبرياء ممزوج بأسى على مرأى من الشمس. المدرج الروماني يسند ظهره على المحيط، ويفتح شرفاته المطلة على الضفة الأخرى من العالم. كنت ثالث ثلاثة رموا ثيابهم على الرمل، وقفزوا في بحر صبراته، عدت شابا ما إن غسلت جسدي في موجة رفعت روحي عاليا ووعدتني بالثلج والخلود، تاركة في جيبي حجرا حملته معي ليسند الفؤاد يوم يشتد به الحنين. رافق طريقنا إلى يفرين كثير من الشعر والموسيقى، وما أن لامست أقدامنا قمة الجبل، حتى أدرك كل منا بيته العتيق، منا من اشتم شال أمه في الزعتر البري، ومنا من ذكرته معصرة الزيتون بأسلافه، ومنا من أقسم أنه ركع في خلوة هذا المسجد، أو سمع رنة جرس تلك الكنيسة.. مشينا خفافا لئلا ندوس على لغة أمازيغية تتطاير مثل عصفور خرج من قفصه للتو.. شربنا الشاي بالنعناع في شرفات تلف الوديان قبل الغروب، والتقطنا صورا كأنها مأخوذة لنا قبل وصولنا بعقود. في طريق امتدت وقطعت الصحراء نصفين، توقفنا عند كثيب رمل، وبدافع من هوايات صغيرة في تأمل الزهر وفصائل النبات، انشقت صفرته عن أعقاب ذخائر نحاسية وطلقات صدئة، تطل بهاماتها الصلعاء، لم يمل قلبي إلى حملها لرمزية المعنى، بل دست أطرافها لتغوص عن آخرها، فالرمل كفيل بأن يمحوها وينتظر، حالما بالشيح والنفل والخزامى، ينتظر قدوم المطر. سأؤجل حديث الوداع، لست ممن يستهويهم الفراق أبدا، سأعرج على تلك الإشارة اللماحة، حين يعرف ليبي أني قادم من بلادي «السعودية»، حينها يتهلل وجهه كمن يستحضر تاريخه الشخصي، غالبيتهم يبدأون بذكر أسماء عائلاتهم وأنها أصلا من جزيرة العرب، وهي أسماء حاضرة بكاملها في ذاكرتي، وكثير من يسأل من أي الجهات في السعودية، كمن يقرأ كفه ويقبض بزهو عليها، هكذا شعور لم أعهده في كثير من عواصم ومدن عربية، حيث لا تزال تلك النظرة النمطية السياحية والجاهزة عن كون المرء سعوديا.. في ليبيا لم أشعر بتلك الغصة أبدا، بل أصبحت أستعيد موطني بسبب ومن غير سبب، لأستزيد من إحساس كم افتقدته وأنا على سفر، نعم «باهي» يا ليبيا الحرة.
جريدة الشرق السعودية
13-5-2012
افتتح مهرجان طرابلس العالمي للشعر، تحت قوس حجري غائر في أعماق المدينة القديمة المطلة على البحر المتوسط، في مساء 28 أبريل الفائت. رقت الشمس ما أن عزفت فرقة المالوف الليبي، التدريجة الطرابلسية، هابطة عبر البوابة التاريخية وكأنما افتتاحية عهد يعد بالأمل والبهجة، رقص حكيم المهرجان وكنا نعرفه متأملا، مقتصدا في تعبيره، ولا ينطق عن هوى، فاذا به يطلق أجنحة الطفل فيه، ويوقد بشمعته مهج الجالسين، ليفتحوا صدورهم لهواء غير مستعمل. على وقع عواطف مشبوبة، صعد الشعر بأناة، لغات متعددة، جمعها الحب وصعد بنا درجة درجة، لامس أفئدة حاضرة البال ومنتشية الخاطر. ومنذ غيمة الافتتاح جرى الشعر، صباحا ومساء، لثلاثة أيام خاطفة، مهرجان أسهم في وضع لبنته الأولى شباب وشابات، تقودهم أرواح ليست قابلة للاستسلام. سرقنا ما تبقى من اليوم الرابع في رحلة إلى الجبل الغربي، متوقفين عند موجة لم تفقد صبرها أبدا، على شاطئ صبراته، حيث ترجلنا مدهوشين أمام شموخ أعمدة تنتصب كأنها الأبد، قلاع تاريخية عبرت أزمنة وأحقابا، لم يقو الظلام على محوها، منحوتات تخفت قرونا، في باطن الحجر وآن لها أن تمد أجسادها الناجية بكبرياء ممزوج بأسى على مرأى من الشمس. المدرج الروماني يسند ظهره على المحيط، ويفتح شرفاته المطلة على الضفة الأخرى من العالم. كنت ثالث ثلاثة رموا ثيابهم على الرمل، وقفزوا في بحر صبراته، عدت شابا ما إن غسلت جسدي في موجة رفعت روحي عاليا ووعدتني بالثلج والخلود، تاركة في جيبي حجرا حملته معي ليسند الفؤاد يوم يشتد به الحنين. رافق طريقنا إلى يفرين كثير من الشعر والموسيقى، وما أن لامست أقدامنا قمة الجبل، حتى أدرك كل منا بيته العتيق، منا من اشتم شال أمه في الزعتر البري، ومنا من ذكرته معصرة الزيتون بأسلافه، ومنا من أقسم أنه ركع في خلوة هذا المسجد، أو سمع رنة جرس تلك الكنيسة.. مشينا خفافا لئلا ندوس على لغة أمازيغية تتطاير مثل عصفور خرج من قفصه للتو.. شربنا الشاي بالنعناع في شرفات تلف الوديان قبل الغروب، والتقطنا صورا كأنها مأخوذة لنا قبل وصولنا بعقود. في طريق امتدت وقطعت الصحراء نصفين، توقفنا عند كثيب رمل، وبدافع من هوايات صغيرة في تأمل الزهر وفصائل النبات، انشقت صفرته عن أعقاب ذخائر نحاسية وطلقات صدئة، تطل بهاماتها الصلعاء، لم يمل قلبي إلى حملها لرمزية المعنى، بل دست أطرافها لتغوص عن آخرها، فالرمل كفيل بأن يمحوها وينتظر، حالما بالشيح والنفل والخزامى، ينتظر قدوم المطر. سأؤجل حديث الوداع، لست ممن يستهويهم الفراق أبدا، سأعرج على تلك الإشارة اللماحة، حين يعرف ليبي أني قادم من بلادي «السعودية»، حينها يتهلل وجهه كمن يستحضر تاريخه الشخصي، غالبيتهم يبدأون بذكر أسماء عائلاتهم وأنها أصلا من جزيرة العرب، وهي أسماء حاضرة بكاملها في ذاكرتي، وكثير من يسأل من أي الجهات في السعودية، كمن يقرأ كفه ويقبض بزهو عليها، هكذا شعور لم أعهده في كثير من عواصم ومدن عربية، حيث لا تزال تلك النظرة النمطية السياحية والجاهزة عن كون المرء سعوديا.. في ليبيا لم أشعر بتلك الغصة أبدا، بل أصبحت أستعيد موطني بسبب ومن غير سبب، لأستزيد من إحساس كم افتقدته وأنا على سفر، نعم «باهي» يا ليبيا الحرة.