مقالات مختارة : الجيش ..... بيــن التفعيل والتهميش !!!

الجيش ..... بيــن التفعيل والتهميش !!!

بقلم / أمجاور اغريبيل

السؤال المطروح لا يتعلق بتفعيل الجيش من عدمه , لأنها مسالة تتعلق بمنتسبيه من الضباط وضباط الصف والجنود , فهم وحدهم من يستطيع تفعيل الجيش عندما يقومون بتفعيل آلياته وقوانينه المعطلة , ويعيدون إليه الضبط والربط المبني على الاحترام والطاعة بين جميع مستوياته , ولا حاجة بهم إلى التظاهر , لأنه لا أحد سوف يلبي طلباتهم المرهونة بإرادتهم هم وحدهم .

كلما ارتفعت الأصوات مطالبة بتفعيل الجيش , كلما كانت هناك ضرورة لطرح السؤال التقليدي , وهو نفس السؤال الذي يطرح كلما حدثت جريمة وتعذر العثور على فاعلها , من المستفيد الأول من تهميش الجيش وعدم تفعيل دوره ؟ رغم الحاجة الملحة إليه لآجل إعادة الهيبة إلى دولتنا الضعيفة , و الأمن إلى حدودنا ا لمستباحة , وضبط فوضى السلاح التي أضحت تهددنا بحرب أهلية .
كنت في مقالة سابقة بعنوان (جيش معمر) قد فندت كل الدعاوي التي أرادت الإساءة إلى الجيش واتهامه بالتواطؤ مع ا لنطام والوقوف ضد الثورة , و أوردت من الأمثلة بما لا يدع مجالا للشك في الدور الكبير الذي قام به الجيش في إ نجاح ا لثورة , لكن يبدو أن المشكلة ليست مع الجيش ككيان مادي مكون من أفراد ومعدات بل مع الجيش ككيان معنوي مكون من عقيدة و ضبط وربط و تراتبية تحكم العلاقة بين جميع أفراده من ضباط وضباط صف وجنود , يبدو أن المشكلة مع الجيش كمؤسسة لها عاداتها وتقاليدها في مواجهة كيان بديل يراد له أن يحل محله , وهو الآخر له عاداته وتقاليده والتي تختلف مع تقاليد الجيش إلى حد التناقض.
الجيوش العربية جيوش عقائدية تنحاز للسلطة و تقف في صفها , وعلى متن دباباتها وصل الطغاة والحكام المستبدون إلى سدة الحكم , رأينا ذلك يحدث في العراق ومصر وسوريا واليمن وليبيا وموريتانيا والسودان , ويبدو أن حكامنا الجدد لا يريدون لمسلسل الانقلابات العربية أن يتكرر خاصة بعد الفوضى العارمة المسيطرة على بلدان الربيع العربي وفشل حكوماتها في تحسين أوضاع مواطنيها على كل الأصعدة الأمنية منها أو الاقتصادية فهاهي معدلات البطالة تزداد في تونس و الدخل العام ينخفض في مصر والفوضى تبلغ ذروتها في ليبيا وهذا ما يجعلهم يناصبون الجيش العداء ويقفون في مواجهة أي محاولة لتفعيله وبعث الحياة فيه من جديد .
لقد بدأ الحديث عن تهميش الجيش بعد انتهاء حرب التحرير , وأن كانت إرهاصات هذا التهميش قد أخذت حيز التنفيذ باغتيال رئيس أركان الجيش الليبي اللواء عبدالفتاح يونس , والذي إذا ما حُل لغز مقتله وعٌرف من كان وراء تصفيته فسوف نعرف من يقف وراء تهميش الجيش وعدم تفعليه , لأنها نفس الجهة , لها ذات الأهداف , وتعتمد الأساليب عينها , هناك تَقتل وهنا تُقصي وتُهمش , وفي كلتا الحالتين الضحية واحدة الجيش الليبي .
كان يمكن للجيش أن يسترد عافيته ويستعيد دوره في وقت قصير , لو تم انضواء الثوار تحت لوائه بمجرد انتهاء حرب التحرير, لكن الذي حدث أن أعداد الثوار التي لم تتجاوز وقتها بضع ألاف أصبحت تعد الآن بعشرات الآلاف , والكتائب التي كان يمكن عدها على أصابع اليد الواحدة أصبحت الآن بالمئات , وكل ذلك حدث تحت سمع وبصر المجلس الانتقالي ووزير دفاعه الذي كان يوقع بنفسه قرارات إنشاء تلك الكتائب , وهذا لا يمكن فهمه إلا بطريقة واحدة مفادها أن النية كانت مبيتة منذ البداية لخلق جيش موازي من الثوار يحل تدريجيا محل الجيش الوطني أو ما يسمى وفق مصطلحاتهم بجيش معمر .
لكن السحر أرتد على الساحر , والكتائب التي أريد لها أن تكون اليد التي يبطش بها المجلس بأسم الشرعية , قد أصبحت أداة للتنغيص , ومصدرا لصداع الرأس , وعقبة كأداء لا حيلة للمجلس في تجاوزها , فثوار الزنتان وغير الزنتان يحكمون سيطرتهم على مطاراتنا العالمية والدولية , وأبطال البطنان يضعون أيديهم على منفذنا الشرقي , وأشاوس زوارة يفعلون الشئ نفسه مع منفذنا الغربي , وصناديد الكفرة وسبها يقاتلون قبائل التبو من آجل الحصول على الدجاجة التي تبيض ذهبا , وكتائب أخرى لا حصر لها تحتل الأماكن العامة من معسكرات للجيش والشرطة ومباني للمؤسسات الحكومية , وكل هذا مع مجلس لا حول له ولا قوة حيال ما يحدث , مجلس لا يملك سوى المال وهو وسيلته الوحيدة لإسكات المعارضين له أو المتظاهرين ضده , فإذا أردت أن تحصل على مرتبات أو مكافآت لاحق لك فيها , فقم بالتظاهر وقفل الشوارع والاعتصام أمام المصارف , أما إذا كنت من الثوار الذين يطالبون بثمن مشاركتهم في حرب التحرير , حتى لو اقتصرت مشاركتهم على مجرد التكبير والتهليل , فالمسألة في غاية البساطة , يكفي أن تثير الفوضى , و تتهم من يسدي لك النصح بالخيانة , وهذه وصفة ناجحة على كل المستويات .
كل هذا قد يفهم في ظل ظروف استثنائية تعيشها بلاد في طور التحول من الفوضى التي تعقب كل ثورة إلى مرحلة الدولة التي تحتاج إلى الكثير من الصبر والجلد , لكن الذي لا يفهم و لا يمكن أن يفهم تحت أي مبرر هو هذا الإهمال لمؤسسة من أهم مؤسسات الدولة الليبية التي ننتظر ولادتها بفارغ الصبر , بل واحدة من أعمدتها الأربعة بالإضافة إلى الأمن والصحة والتعليم التي سوف يقام عليها البناء بكامله .
لا يمكن أن يفهم كل ذلك إلا إذا كان الأمر يتم وفق مخطط مدروس يهدف إلى الوصول في النهاية إلى غايات محددة من بينها إلغاء المؤسسة العسكرية القائمة بهدف بناء مؤسسة أخرى توصف بأنها دينية قبل أن تكون عسكرية , وهذا الإلغاء يعرف الجميع أنه لن يكون نتيجة لقرار فوقي قد تكون عواقبه وخيمة كتلك التي حدثت بالعراق بعد تسريح جيشه , ولكن الإلغاء سيكون هذه المرة بفعل عوامل هدم داخلي يعطى لها كل الدعم والوقت لكي تفعل فعلها السحري .
حكومات بلدان الربيع العربي التي سقطت يمكن أن توصف بأنها حكومات علمانية , أو كافرة كما يحلو للبعض أن يصنفها , وفي حالة كهذه كان لابد أن يكون البديل حكومات دينية وهذا ما حدث بالفعل , وهذه الحكومات سيكون في مقدمة اهتماماتها إعادة اسلمة مؤسسات الحكومات السابقة ولن ينجو الجيش من هذه الاسلمة باعتباره أكثر المؤسسات ارتباطا بالدولة وولاء لها .
هذه الاسلمة التي تقودها تيارات الإسلام السياسي التي أصبحت تحكم سيطرتها على دول الربيع العربي , تهدف إلى تغيير الولاءات وترتيب الأولويات , وتصحيح العقائد و الإستراتيجيات , هذه الاسلمة سوف تعيد إنتاج مفاهيم قديمة في حلة جديدة , مفاهيم تتحدث عن الخليفة ودولة الخلافة والتي سوف تقودنا بالضرورة إلى إعادة إنتاج مفهوم جيش الخلافة !!!
السؤال المطروح الآن لا يتعلق بتهميش الجيش من عدمه , فالعجلة بدأت تدور في هذا الاتجاه, والذي يبطئ من دورانها هو أن الحاجة لازالت قائمة إلى بعض فصائل الجيش , للقضاء على بؤر التوتر التي تظهر هنا وهناك من الكفرة حتى سبها والرقدالين !!!
والسؤال المطروح لا يتعلق أيضا بتفعيل الجيش من عدمه , لأنها مسالة تتعلق بمنتسبيه من الضباط وضباط الصف والجنود , فهم وحدهم من يستطيع تفعيل الجيش عندما يقومون بتفعيل آلياته وقوانينه المعطلة , ويعيدون إليه الضبط والربط المبني على الاحترام والطاعة بين جميع مستوياته , ولا حاجة بهم إلى التظاهر , لأنه لا أحد سوف يلبي طلباتهم المرهونة بإرادتهم هم وحدهم .
لكن السؤال الذي يجب أن يطرح هو ما الذي يراد بالجيش ؟ وهو سؤال تتم الإجابة عليه ضمن الإجابة على سؤال آخر اكبر ماذا يراد بالوطن ؟؟؟