الزواج :
تعبد لله أم إشباع رغبة وإنجاب ولد
تعبد لله أم إشباع رغبة وإنجاب ولد
يقضى بأنها غير مشروعة، وغير المشروع باطل. والزواج
مأذون فيه شرعا. لكن القصد من الزواج بمعنى النية أو الإرادة يحتاج
إلى وقفة. فإذا كانت نية المقدم على الزواج هي مجرد الهوى والشهوة من غير
أن يلتفت إلى خطاب الشارع ( وهو أن يكون الزواج
تعبدا لله ، لأن الشرع إنما جاء بالتعبد ، والمقصود من بعثة الأنبياء هو
التعبد) ووافقت هذه النية وهى الهوى والشهوة الإذن الشرعي بحكم
الاتفاق لا بحكم أن صاحبها يقصدها ، كان هذا الزواج من الأعمال التي يقرها
الشرع ، حتى بهذه النية وهى الهوى والشهوة ، لأنها وافقت أمر الشارع أو
إذنه لما يترتب عليه المصلحة في الدنيا.
لكن الذي يفتقده هذا الزواج هنا هو نية الامتثال لقصد الشارع ، فلا يترتب
عليه الثواب في الآخرة لأن الأعمال بالنيات. يضاف إلى ذلك أن الأعمال التي
يكون فيها الباعث هو الشهوة والهوى ووافقت قصد الشارع تبقى ببقاء حياة
صاحبها ، فإذا خرج من الدنيا ، فنيت بفناء الدنيا. ولهذا يقول الله تعالى :
(مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ
فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا
لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ). الشورى 20.
ولما سئل العلماء : هل الزواج من أعمال الآخرة أم من أعمال الدنيا وحظوظ
النفس، أجابـــوا : " إن قصد به شيء من الطاعات ، بأن
قصد به الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو تحصيل ولد صالح ، أو
إعفاف نفسه ، وصيانة فرجه ، وعينه وقلبه ، ونحو ذلك، فهو من أعمال الآخرة
ويثاب عليه ، وإن لم يقصد به شيء من ذلك فهو مباح من أعمال الدنيا وحظوظ
النفس ، ولا ثواب فيه ولا إثم " . ( فتاوى الإمام النووي ص 179 نقلا عن
فتاوى موقع الإسلام سؤال وجواب السؤال رقم 8891 ).
يقول الإمام الغزالي : " أن الرجل إذا تزوج ونوى بذلك
حصول الولد كان ذلك قربة يؤجر عليها من حسنت نيته ، وذلك من وجوه :
الأول : موافقة محبة الله عز وجل في تحصيل الولد
لإبقاء يغلق الإنسان.
الثاني : طلب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تكثير
من يباهى بهم الأنبياء والمرسلين والأمم يوم القيامة.
الثالث : طلب البركة ، وكثرة الأجر ومغفرة الذنب
بدعاء الولد الصالح له بعده. ( السؤال 12493، فتاوى موقع الإسلام سؤال
وجواب) .
المقصود هنا كما يشير علماء الشريعة : هو أن المصالح المجتلبة شرعا
والمفاسد المستدفعة ، إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى ،
لا من حيث أهواء النفس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية.
وبمعنى آخر يمكن القول: إن للزواج قصدا أصليا ، وهو التعبد لله تعالى .
وقصدا تابعا: مثل قضاء الوطر وإنجاب الذرية والأنس بالزوج والتخلص من
العزوبة ...الخ : وهذا كله ليس مقصودا من الزواج شرعا كما أنه غير مقصود من
العبادة ، ولكن صاحبه يناله ويتحصل عليه . وكل تابع من هذه التوابع إما أن
يكون خادما للقصد الأصلي وهو التعبد لله ، وإما أن يكون غير خادم له ..
فإن كان القصد التابع خادما للقصد الأصلي كانت بداية الزواج صحيحة ، وقد
قال تعالى في معرض المدح ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) الفرقان 74. وذلك لما فيه
من الثواب الجزيل في الآخرة.
وفى هذا يقول الإمام الغزالي : " كل ما كان سببا
لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات البدن ، فهو يعين على الدين ، فمن كان
قصده من الزواج تحصين دينه وتطييب قلب أهله ، والتوصل به إلى ولد صالح يعبد
الله تعالى ويكثر به أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان مطيعا لله بزواجه
هذا . أما إن كان القصد التابع غير خادم للقصد الأصلي كان القصد إلى الزواج
ابتداء غير صحيح .
المشكلة هنا هو أن النية ليست داخلة تحت الاختيار :
فإذا قال قائل نويت أن أتزوج لله ، يقال له أن هذا ليس بنية ، إنما هو
حديث نفس ، وحديث لسان وفكر ، أو انتقال من خاطر إلى خاطر. والقصد أو النية
بمعزل عن جميع ذلك لأن النية في حقيقتها :" انبعاث
النفس ، وتوجهها ، وميلها إلى ما ظهر أن فيه غرضها إما عاجلا أو آجلا".
والطريق إلى اكتساب توجه القلب إلى الشيء وميله إليه ، إنما يكون باكتساب
أسبابه : وهذا قد يقدر عليه صاحبه أو قد لا يقدر عليه. فالنفس تنبعث إلى
الفعل إجابة للغرض الموافق للنفس الملائم لها. فإذا غلبت شهوة النكاح مثلا
ولم يكن لصاحبها قصد أصلي في الولد دينا ودنيا ، لا يمكن أن يجامع زوجته
على نية الولد هذه ولكن على نية قضاء الشهوة ، لأن النية ما هي إلا إجابة
للباعث ولا باعث هنا إلا الشهوة ، فكيف ينوى الولد من لم يغلب على قلبه
إقامة سنة النكاح اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعلى من يريد اكتساب هذه النية : أن يقوى
إيمانه بالشرع أولا، ويقوى إيمانه بعظم ثواب من سعى في تكثير أمة محمد صلى
الله عليه وسلم ، ويدفع عن نفسه كل ما يعوقه عن ذلك من تفكير في ثقل
المؤونة ، وطول التعب ، وغير ذلك ، فإذا فعل ذلك ربما انبعث من قلبه رغبة
إلى تحصيل الولد للثواب، فتحركه تلك الرغبة ، وتتحرك أعضاؤه لمباشرة العقد ،
فإذا انتهضت القدرة المحركة للان بقبول العقد طاعة لهذا الباعث الغالب على
القلب كان صاحبها هنا " ناوبا" وإن لم يكن كذلك ، فما يقدره في نفسه
ويردده في قلبه من قصد الولد إنما هو وسواس وهذيـــــان ( على حد قول الإمام الغزالي) .
ولهذا امتنع جماعة من السلف عن جملة من الطاعات لأنه لم تحضرهم نية. فابن
سيرين لم يحضر جنازة الحسن البصري ولما سئل عن ذلك قال : ليس تحضرني نية ،
ولما مات حماد بن سليمان وكان أحد علماء الكوفة لم يحضر الإمام الثوري
جنازته ، ولما سؤل عن ذلك قال : لو كان لي نية لفعلت . ومن غلب على قلبه
أمر الدين تيسر له في أكثر الأحوال إحضار النية للخيرات : بمعنى إن كان
قلبه مائل بالجملة إلى أصل الخير ، نجده يتعدى إلى التفاصيل غالبا ، ومن
مال قلبه إلى الدنيا وغلبت عليه الدنيا لم يتيسر له ذلك ، بل لا يتيسر له
في الفرائض إلا بجهد جهيد ، وغالب ذلك أن يتذكر النار ويحذر نفسه عقابها ،
أو نعيم الجنة ويرغب نفسه منها ، فربما تنبعث له بواعث ضعيفة ، فيكون ثوابه
بقدر رغبته ونيته.
خلاصة القول :
أنه لا بد لكل عمل من نية ، فلا عمل لمن لا نية له ، ولا أجر لمن لا حسبة
له أي لا أجر لمن لا يحتسب ثواب عمله عند الله عز وجل ، وكل عمل لا يراد به
وجه الله لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة , ولا بد للعمل من أمرين كما
يقول الإمام ابن القيم : أن يكون خالصا ، بمعنى أن يقصد بالعمل في باطنه
وجه الله تعالى ، وأن يكون صوابا ، فأفضل العمل أخلصه وأثوبه ، فالعمل إذا
كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل ، وإن كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ،
فالله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه، وابتغى به وجهه.
وقد استفضنا هنا في الحديث عن الأمر الأول وهو أن يكون الزواج خالصا ، أما
الأمر الثاني ، وهو أن يكون صوابا ، بمعنى أن يكون موافقا للسنـة ،أمر
يحتاج إلى تفصيل؛ لأن الزواج في أيامنا هذه أبعد ما يكون عن سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم - إلا من رحم الله - ولهذا لا يحتاج الأمر إلى بحوث
ودراسات لفهم أسباب تصدع الأسر ، وارتفاع نسب الطلاق ، وانحراف الأبناء
.... الخ ، فالزواج في أصله بناء ، وأساس هذا البناء هو " تقوى الله
ورضوانه"، فإذا كان هذا هو الأساس تماسك البناء واستقام ، وإذا لم يكن هذا
أساسه كان عرضة لعدم الاستقرار والانهيار. يقول تعالى: ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ
وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ
هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِين ).
.................
بقلم: الدكتور أحمد بن إبراهيم خضر،الأستاذ المشارك
السابق بجامعات القاهرة ، والأزهر ، وأم درمان الإسلامية ، والملك عبد
العزيز .