قصص رواها
النبي صلى الله عليه وسلم
القصة
الأولى
:
إنك
تنظر أحياناً إلى الحيوان في حدائقه التي أنشأها الإنسان له لتتمتع
وتتعرف عليه عن كثب فتجد بعضه ينظر إليك بعينين فيهما
تعبيرات كثيرة عن
أحاسيس يشعر بها ، فتتجاوب
معه ، ويتقدم إليك بغريزته ، ويُصدر بعض الحركات
،
فيها معان تكاد تنطق مترجمة ما بنفسه ... هذا في الأحوال العادية ...
فكيف إذا كانت معجزات
أرادها الله سبحانه وتعالى تهز قلوب الناس وعقولهم
وأحاسيسهم
؟
ألم يسمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصا
في يده الشريفة ؟
ألم يسمعوا أنين جذع الشجرة ،
ويرَوا ميله إليه عليه الصلاة والسلام حين
أنشأ
المسلمون له منبراً يخطب عليه ؟
وقد
كان يستند إلى الجذع وهو يخطب فعاد إليه ، ومسح عليه ، وقال له : ألا
ترضى أن تكون من أشجار الجنة ؟ فسكت ..
إذا كان الجماد والطير
صافات تسبح وتتكلم ، ولكن لا نفقه تسبيحها أفليس
الأقرب
إلى المعقول أن يتكلم الحيوان ؟...
اشتكى
بعير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلمَ صاحبه إياه ، وكلّم
الهدهدُ سليمانَ عليه السلام ، وسمع صوت النملة تحذّر
يغلقها من جيش سليمان
العظيم أن يَحْطِمها ، والله
سبحانه وتعالى – أولاً وأخيراً- قادر على كل
شيء ،
والرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يخبرنا ، ويحدثنا .
في صباح أحد الأيام بعد
صلاة الفجر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث
أصحابه
، ولم يكن فيهم صاحباه العظيمان – الصديقُ أبو بكر والفاروق عمر –
رضي الله عنهما ،
فلعلهما كانا في سريّة أو تجارة ... فقال :
بينما راع يرعى أغنامه ،
ويحوطها برعايته إذْ بذئب يعدو على شاة ، فيمسكها
من
رقبتها ، ويسوقها أمامه مسرعاً ، فالضعيف من الحيوان طعام القويّ منها –
سنة الله في مسير هذه
الحياة – وتسرع الشاة إلى حتفها معه دون وعي أو
إدراك
، فقد دفعها الخوف والاستسلام إلى متابعته ، وهي لا تدري ما تفعل .
ويلحق الراعي بهما –
وكان جَلْداً قويّاً – يحمل هراوته يطارد ذلك المعتدي
مصمماً
على استخلاصها منه ... ويصل إليهما ، يكاد يقصم ظهر الذئب . إلا أن
الذئب الذي لم يسعفه الحظ بالابتعاد بفريسته عن سلطان
الراعي ، وخاف أن
ينقلب صيداً له ترك الشاة
وانطلق مبتعداً مقهوراً ، ثم أقعى ونظر إلى
الراعي
فقال :
ها
أنت قد استنقذتها مني ، وسلبتني إياها ، فمن لها يومَ السبُع؟ !! يومَ
السبُع ؟!! وما أدراك ما يومُ السبُع ِ؟!! إنه يوم في علم
الغيب ، في
مستقبل الزمان حيث تقع الفتن ، ويترك الناس
أنعامهم ومواشيهم ، يهتمون
بأنفسهم ليوم جلل ،
ويهملونها ، فتعيث السباع فيها فساداً ، لا يمنعها منها
أحد
. .. ويكثر الهرج والمرج ، ويستحر القتل في البشر ، وهذا من علائم
الساعة .
قال
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متعجبين من هذه القصة ، ومِن حديث
الذئب عن أحداث تقع في آخر الزمان ، ومن فصاحته ، هذا
العجب بعيد عن
التكذيب ، وحاشاهم أن
يُكذّبوا رسولهم !! فهو الصادق المصدوق ، لكنهم
فوجئوا
بما لم يتوقعوا ، فكان هذا الاستفهام والتعجّبُ وليدَ المفاجأة لأمر
غير
متوقّع :
إنك
يا سيدنا وحبيبنا صادق فيما تخبرنا ، إلا أن الخبر ألجم أفكارنا ،
وبهتَنا
فكان منا العجب .
فيؤكد
رسولً الله صلى الله عليه وسلم حديثَ الذئب قائلاً :
أنا أومن بهذا ... هذا
أمر عاديّ ،فالإنسانُ حين يسوق خبراً فقد تأكد منه ،
أما
حين يكون نبياَ فإن دائرة التصديق تتسع لتشمل المصدر الذي استقى منه
الرسول الكريمُ هذه القصة ، إنه الله أصدق القائلين سبحانه
جلّ شأنُه .
ويا
لجَدَّ الصديق والفاروق ، ويا لَعظمة مكانتهما عند الله ورسوله ، إن
الإنسان حين يحتاج إلى من يؤيدُه في دعواه يستشهد بمن حضر
الموقعة ، ويعضّد
صدقَ خبره بتأييده ومساندته
وهو حاضر معه . لكنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم
المؤمن بعِظَم يقين الرجلين العظيمين ، وشدّة تصديق الوزيرين الجليلين
أبي
بكر وعمر له يُجملهما معه في الإيمان بما يقول ، ولِمَ لا فقد كشف
الله لهما الحُجُبَ ، فعمَر الإيمانُ قلبيهما وجوانحهما ،
فهما يعيشان في
ضياء الحق ونور الإيمان .
فكانا نعم الصاحبان ، ونعم الأخوان ، ونعم
الصديقان
لحبيبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريان ما يرى ، ويؤمنان
بما يقول عن علم ويقين ، لا عن تقليد واتباع سلبيّ.
فأبو بكر خير الناس بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، صدّقه حين كذّبه
الناسُ
، وواساه بنفسه وماله ، ويدخل الجنة من أي أبوابها شاء دون حساب ،
وفضلُه
لا يدانيه فضلٌ .
والفاروق
وزيره الثاني ، ولو كان بعد الرسول صلى الله عليه وسلم نبيٌّ لكان
عمر
. أعزّ اللهُ بإسلامه دينه ، ولا يسلك فجاً إلا سلك الشيطان فجّاً
غيره .
كانا
ملازمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وكثيراً ما كان عليه الصلاة
والسلام يقول :
ذهبت
أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر
وعمر .
فطوبى
لكما يا سيّديّ ثقةَ رسول الله بكما ، وحبَّه لكما ، حشرنا الله
معكما تحت لواء سيد المرسلين وخاتم النبيين .
وأتـْبَعَ الرسولُ
الكريمُ صلى الله عليه وسلم قصةَ الراعي والذئب بقصة
البقرة
وصاحبها ، فقال :
وبينما
رجل يسوق بقرة – والبقر للحَلْب والحرْث وخدمة الزرع – امتطى ظهرها
كما يفعل بالخيل والبغال والحمير ، فتباطأَتْ في سيرها ،
فضربها ،
فالتفتَتْ إليه ، فكلّمَتْه ، فقالت: إني
لم أُخلقْ للركوب ، إنما خلقني
الله للحرث ، ولا يجوز
لك أن تستعملني فيما لم أُخلقْ له .
تعجّب
الرجل من بيانها وقوّة حجتها ، ونزل عن ظهرها ...
وتعجب أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: سبحان الله ، بقرةٌ
تتكلم
؟!
قالوا
هذا ولمّا تزل المفاجأة الأولى في نفوسهم ، لم يتخلّصوا منها ...
فأكد القصة َ رسول ُ
الله صلى الله عليه وسلم حين أعلن أنه يؤمن بما يوحى
إليه
، وأن الصدّيق والفاروقَ كليهما – الغائبَين جسماً الحاضرَين روحاً
وقلباً وفكراً يؤمنان بذلك .
رضي الله عنكما أيها الطودان
الشامخان ، وهنيئاً لكما حبّ ُ رسول الله صلى
الله
عليه وسلم لكما وحبُّكما إياه .
اللهمّ
إننا نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ، فارزقنا صحبة رسول الله وأبي
بكر وعمر ، يا رب العالمين ....
البخاري مجلد – 2
جزء
– 4
كتاب بدء الخلق ، باب فضائل الصديق وعمر
القصة
الثالثة
تلك
إذاً قسمة " صحيحة "
دخلت
حسناء
البيت مسرعة ، فوجدت أمها ترتب الطعام على
المائدة ، فبعد قليل يأتي والدها
من العمل متعباً ،
فيأكل ثم يصلي ليرتاح قليلاً قبل زيارة الجدة ، فشرعت
في
مساعدة أمها ، وأخبرتها أن معلمتها ذكرت لها قصة الحلاّبة وابنتها،
فأعجبت
بالبنت ونزاهتها وحسن إيمانها ، ورغبت أن تكون مثلها في التزامها
آداب هذا الدين العظيم والتمسّك بأهدابه .... ولم تنتظر أن
تطلب أمها أن
تقص عليها قصتها ، فبدأت تقول :
إن الفاروق عمر رضي
الله عنه خليفة المسلمين انطلق وخادمُه يعُسّ طرقات
المدينة
، ويتفقد أمور المسلمين ، فسمع امرأة تقول لابنتها : يا بنيّة
امزقي ( اخلطي وامزجي )اللبن بالماء – كي يكثر فيزداد
الربح- فقالت البنت
لأمها : أم تعلمي أن أمير
المؤمنين حذرنا من الغش، ومنع مزج الحليب بالماء
؟!
قالت لها أمها : وأين منا أمير المؤمنين ؟ ... ردت البنت قائلة : إن كان
أمير
المؤمنين لا يرانا فربه سبحانه يرانا !...
أُعجب الفاروق بدين
الفتاة وكريم خُلُقها ، وأمر صاحبه أن يضع علامة على
البيت
، وقال له : ايتني بخبر أهل الدار
...
وفي الصباح قال خادمه : إنها امرأة تبيع
الحليب وابنتها . فسأل الخليفة
ابنه عاصماً : هل لك في
زوجة صالحة ؟ قال : نعم . فزوجه منها . فكانت هذه
الزوجة
الصالحةُ جدةََ الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز.
فرحت الأم بابنتها ،
وقبّلتها ، وقالت: إنّ السُّحت يا ابنتي لا بركة فيه ،
ويُردي
صاحبه في النار ، والحلال يرفع شأن صاحبه في الدنيا ، ويهديه إلى
الجنة .
إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم روى لأصحابه قصة مشابهة لما رويتِ ،
سأقصها
عليك الآن ونحن نرتب الطعام على المائدة قبل أن يصل والدك .
تعلمين يا حسناء أن
الخمر لم يكن محرّماً في أول الإسلام ، ثم بدأت الدائرة
تضيق
على تناوله حتى حرّمه الله تعالى في قوله سبحانه " يا أيها الذين
آمنوا ، إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل
الشيطان ،
فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إنما يريد الشيطان
أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء
في الخمر والميسر ،
ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؟ "
قالوا : انتهينا ، يا
رب ، انتهينا .
ولعله
كان في الأمم السابقة غير محرّم كذلك .
فقد انطلق رجل بسفينته في
النهر ، يقف على هذه القرية وتلك القرية ، وهذا
الحي
وذاك ، يبيع الخمر للناس . وكان غشّاشاً ، يخلط الخمر بالماء ليزداد
بيعه ، فيزداد ربحه . وكثير من الناس في أيامنا هذه يفعل
مثله ظنّاً منهم –
وهذا
قلة في الدين ، وضعف في اليقين – أنهم يسرعون في الثراء ، فيَشـُوبون
الجيد
بالرديء ، او يمزجون المتقاربين في النوع ليجنوا المال الكثير
بالطرق غير المشروعة ، فيخسرونه وأضعافه بطرق لا يشعرون
بها ، فقد تكون
المرضَ ، أو السرقةَ أو
الضياعَ أو الإسرافَ أو النكدَ في الحياة الذي يطغى
على
كثرة المال ، فيفقدُ الإنسانُ الراحة وطعم السعادة .. وهذا كلُّه لا
يساوي شيئاً أمام عذاب الله تعالى وغضبه ... فما نبت من
سحت فالنار أولى به
.
باع
الرجل " الخمر المائيّ" ، ووضع الدنانير في كيسه ، وانطلق بسفينته
عائداً إلى بيته ، والسعادة تملأ نفسه ، والأمل في جمع
ثروة كبيرة يراوده .
وبينما
هو في أحلامه ، وقردُه إلى جانبه يقفز هنا وهناك اختطف القردُ
الكيسَ ، وصعِد به إلى سارية السفينة . فانخلع قلب التاجر
لمصير الكيس ،
فقد يطيح به القرد في الماء ،
فيخسر تجارته وأحلامه الوردية التي خامرَتْه .
وقد يفتحه ، فتتساقط
بعض الدنانير في الماء ، ويغيب بعضها في ثنايا
الألواح ....
أيها القرد ؛ أيها
القرد؛ بالله عليك انزل . فلما لم ينزل ناداه : ارم
الكيس
إليّ بهدوء ، ولا تفجعني في مالي
...
لم يفهم القرد توسّلَه ، بل تمكّن من جلسته
أعلى السارية ، وحلَّ رباطَ
الكيس ...؛ نظر في
داخله ...؛ مدّ يده إلى الدنانير الذهبيّة ، فأخرج
ديناراً
، وقلّبَه بيده كأنه يروزه ( يختبره ويتعرّفه) ثم ألقاه أسفل منه ،
فسقط
في السفينة ، فابتدره التاجر ... ورفع رأسه إلى حيث يجلس القرد ...
كان التاجر متوثّباً
مشدودَ الأعصاب .. لقد مدّ القرد يدَه إلى الكيس ،
وأخرج
ديناراً قلّبه بيده ، فاستعدّ التاجر لتلقّيه .. ليس في الأمر حيلة
سوى ذلك ، لقد ترك دفّة السفينة ليتفرّغ للالتقاط الدنانير
.... يا ويح
التاجر ، لقد رمى القرد
الدينار في الماء بين الأمواج ، ورمى التاجر رأسه
على
عمود السارية من الغيظ والقهر .. وعاد ينظر بتوسّل ظاهر إلى القرد ،
ولكنْ
هذه المرة دون أن يناديه ، إذ انعقد لسانه .. فرمى القرد إليه
ديناراً ، فأسرع إلى التقاطه ، ورمى الدينار الرابع إلى
الماء ... يا ويحه ،
ما عادت رجلاه تحملانه .. سقط
على الأرض ، وعيناه متعلقتان بالقرد وصنيعه
...
ازدادت
سرعة يد القرد ، واستمر التوزيع العادل في القسمة .. دينارٌ يٌرمى
على السفينة ، وآخر يُلقى إلى الماء .... وفرغ الكيس ،
ونزل القردُ ... أخذ
التاجر نصيبَه من ثمن الخمر ،
وأخذ النهر نصيبه من ثمن الماء الممزوج
بالخمر ...
أليست القسمة صحيحة ،
والقردُ قاضياً عادلاً ، وحكَماً نزيهاً ؟! !
وقد نال التاجر نصيبه
من الحزن والألم في الدنيا . وسينال جزاءَه في الآخرة
ناراً
تلَظّى ، لا يصلاها إلا الأشقى .. هذا إذا لم يتق الله تعالى ،
ويتـُب
، ويعفُ الكريمُ عنه.
مسند
الإمام أحمد ج2ص306
القصة
الخامسة :
العمل
الصالح يُنجي صاحبه
قاربت
الشمس على المغيب ، وبدأ الظلام يرسل أول خيط له مازج الضوء الباهت
الذي آذن بالرحيل ، وبدأت الأنسام الباردة تخترق ثياب
هؤلاء النفرالثلاثة
الجادّين في السير ، يريدون
أن يصلوا إلى أقرب مأوى يقضون فيه ليلتهم هذه ،
ثم
يتابعون رحلتهم إلى هدفهم .
كانوا
بعيدين عن القرى مسافات كبيرة ، قدّروا أنهم لن يستطيعوا الوصولَ إلى
أوّلها
إلا بعد ساعات من مسير ليليّ غير محمود العواقب ، فقد يقعون في
حفرة ، أو يدعمهم سيل جارف ، أو يَفجؤهم مطر منهمر ، أو
وحوش كاسرة ....
والليل
لا عيون له ، والنهار آمَنُ وآنَسُ. فليبحثوا إذاً عن أقرب مكان
يلوذون به ...
ولم
يطل بهم البحث ، فعلى مدىً يسير منهم ظهرت فجوة ترتفع عما حولها قليلاً
... فجدّوا السير إليها ،
وكانت مناسبة لهم ، ما إن دخلوها حتى شعروا
بالدفء
يسري في أوصالهم ، والهدوءِ يَحوطهم ، والعتَمة تزحف عليهم ،
فاستسلموا
لنوم لذيذ . وما ألذّ النوم بعد التعب ، والسكونَ بعد الحركة ...
وغرقوا في أحلام وردية ،
وتخيّلوا أنفسهم في مرابعهم ، وبين أهليهم ، ولم
يشعروا
بما كان خارج كهفهم من ريح اشتدّت حاملةً السحاب الماطر الذي أغرق
المكان حولهم ، وحفر تحت صخرة كبيرة كانت أعلى الكهف ،
فتدحرجت بكلكلها ،
لتستقر على باب الكهف ،
فتوقعَهم في مأزق لا خلاص منه إلا أن يشاء الله .
بدأت الشمس ترسل أشعتها
إلى الكهف من خلال فجَوات صغيرة تدغدغ النائمين ،
وتوقظهم
برفق ولطف ، وكأنها تقول لهم : يكفيكم ما أنتم عليه من غفلة ،
قوموا
لتبحثوا عن خلاص من هذه المصيبة التي حلّت ، لا تدرون ما الله فاعل
بكم إذا ثبتَتْ في مكانها ... هيا انهضوا فادفعوها ،
واسألوا الله العون ،
والتمسوا رحمته .
إنهم يتحركون ، لقد
شرَعت الحياة تدب فيهم ، فتمددت أوصالهم هنا وهناك يمنة
ويسْرة
، فحمد أولهم ربّه أن أحياه بعد ما أماته – ولمّا يقم – وشكر
الثاني ربّه على نعمة الأمن والأمان – ولمّا يفتحْ عينيه –
وصلى الثالث على
موسى وهارون اللذَين هداه
الله بهما بعد أن ذكر الله ونهض ... ولكن أين
النور
المنبثق ؟ أين الضياء يملأ المكان؟ .. كلها تساؤلات فرضتْها اللحظة
التي رأى جوّ الكهف فيها خانقاً ... هيّا يا صاحبيّ ، أنا
عاجز عن فهم ما
جرى ... نطقها سريعاً ، فقفزا
فوراً كأنهما في سباق ، يستكشفان ما حلّ بهم ،
ويتعرّفان
الموقف ، ففوجئا بما فوجئ به صاحبهما آنفاً .
اندفع أحدهما نحو
الصخرة ليبعدها عن الباب ، فارتدّ خائباً ... عاود الأمرَ
فانتكس
، جرّب صاحباه ، فلم يُفلحا ، وأنّى لمخلوق ضعيف أن يزحزح وتداً
عظيماً من أوتاد الأرض ؟!
تكاتف الثلاثة وأجمعوا
قوّتهم ، وهاجموا الصخرة بعنف ارتدّوا عنها بمثله ،
أو
أشدّ . فلما يئسوا من زحزحتها ، ورأوا الموت المرعب يُطِلّ عليهم من بين
فروضها
عادوا إلى أنفسهم يفكّرون ، وعن مخرج مما هم فيه يبحثون .
وشاء الله الرحيم
بعباده أن ينجّيَهم ، فألهمهم الدعاء له ، والالتجاء إليه
. أليس سبحانه هو القائل :
" وقال ربكم ادعوني أستجِبْ لكم "؟ ! .. بلى
والله
.. يا من يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء ؛ نجِّنا برحمتك يا
أرحم الراحمين .
وبدا
الثلاثة يجأرون بالدعاء ، وكانوا صالحين ، فهداهم الله أن يسألوه
بأفضل أعمالهم الخالصة لوجهه الكريم ، التي ليس فيها
مُراءاة ، ولايبغون
بها سوى رضا الله وجنّته .
قال رجل منهم : كنت
بارّاً بوالديّ ، أكرمهما ، وأفضّلهما على أولادي
وزوجتي
، وأجتهد في خدمتهما . وعرف أهلي فيّ ذلك فساعدوني . وكان من عادتي
أن أسقيهما الحليب عِشاءً قبل الجميع ، فتأخّرت مرة في
حقلي ، أقلّم
الأشجار وأعتني بالزرع ، ثم
رُحت أحلب غبوقهما ، وانطلقتُ أسقيهما ،
فوجدتهما
نائمَين ، فكرهت ان اوقظهما ، وان أغبق قبلهما أحداً من الأهل
والرقيق ، والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى بزغ الفجر ،
والصبية حولي
يتضاغَون من الجوع ، ويصيحون
عند قدمي ، وهم فلذة كبدي ، فتشاغلتُ عنهم حتى
استيقظا
فشربا غبوقهما ، ثم سقيت أهلي وخدمي .... اللهم إن كنتُ فعلتُ هذا
ابتغاء
وجهك الكريم ففرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة .. فانفرجت الصخرة
شيئاً
لا يستطيعون الخروج منه .
وقال
الثاني : أما أنا فقد كنت ميسور الحال ، أحيا رغداً من العيش ، وليَ
ابنة عمّ جميلة المُحيّا ، بهيّة الطلعة ، أحبها ، وأرغب
فيها ، فراودْتها
عن نفسها ، فأبَتْ ، وبذلتُ
لها المال ، فتمنّعتْ ، أغريتها بشتّى الوسائل ،
فلم
أنل منها ما أبتغي . فحبست ألمي وحسرتي في نفسي ، لا أنفرج إلا إذا
نلتُها . ثم واتت الفرصة إذ جاءتني في سنة جديبة تطلب
المساعدة من ابن
عمّها على فقرها ، فراودتني
نفسي على إغوائها ، واغتنمت حاجتَها وبؤسَها ،
فأعطيتها
مئة وعشرين ديناراً على أن تخلّيَ بيني وبين نفسها ، ففعَلَتْ ...
يا لهف نفسي ، ويا
سعادتي ، إنني قاب قوسين أو أدنى إلى اجتناء ثمرة صبري
... هاهي بين يدَيّ ، بل
إنني منها مقام الزوج مكان العفة من زوجته ،
والشهوة
تنتفض في كل ذرّة من جسمي ... قالت والدمع يملأ مآقيها ، والحزن
يتملّكها : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقّه . فالاتصال
الزوجي قمة
السعادة ، والحلال مَراحُ النفس وأُنسُ
الروح ، أما الزنا فلذّة اللحظة ،
وندم
الحياة ، وذلّ الآخرة . .. دقّ قلبي رافضاً ، وختلجت أوصالي آبية
الوقوع في الإثم ، ورأيتُ بعينَيْ قلبي غضب ربي ، فقمت
عنها منصرفاً ،
وتركت لها المال راغباً في
عفو الله ومرضاته . .. اللهم ؛ إن كنتُ فعلت ذلك
ابتغاء
وجهك الكريم فافرُج عنا ما نحن فيه .... فانفرجت الصخرة ، غير أنهم
لا
يستطيعون الخروجَ منها .
وتقدّم
الثالث ، فقال : اشتغل عندي عدد من الأُجراء ، وأعطيتُهم أجرَهم غير
واحدٍ
ترك أجره وذهب . فقلت : في نفسي : قد ترك الأجير حقه ، فانا أولى به
. وقال لي الشيطان : ليس
له عندك شيء .. وتحرك الإيمان في قلبي ، فأمرني
أن
أحتفظ بأجره ليأخذه إن عاد ... ارتحت لهذا القرار ، فأمرني إيماني ثانية
حين
رأى تجاوبي للخير : بل ثمّر له أجره . .. فأشركتُه في عملي حتى كثرت
الأموال والإبل والبقر والغنم والرقيقُ ، وملأ المكانَ .
فجاءني بعد حين
فقال : يا عبد الله ؛ أدِّ
إليّ أجري . فقلت : كلّ ما ترى في هذا الوادي لك
،
فخذه . فقال الأجير : أتهزأ بي ؟! أهذا جزائي منك حين انشغلتُ ابتداءً
فلم آخذ حقي ؟! فقلت له : إني لا أستهزئ بك ... وأخبرتُه
أنني جادٌّ في
قولي ، فقد ثمّرتُ أجره .
فلما وثقَ صدقَ حديثي أخذ ماله وانطلق ، فاستاقه ،
ولم
يترك منه شيئاً . .. اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك ، فافرج عنا
ما نحن فيه .. فانفرجت الصخرة ، فخرجوا يمشون .
متفق عليه رياض
الصالحين ، باب التوبة
النبي صلى الله عليه وسلم
القصة
الأولى
:
إنك
تنظر أحياناً إلى الحيوان في حدائقه التي أنشأها الإنسان له لتتمتع
وتتعرف عليه عن كثب فتجد بعضه ينظر إليك بعينين فيهما
تعبيرات كثيرة عن
أحاسيس يشعر بها ، فتتجاوب
معه ، ويتقدم إليك بغريزته ، ويُصدر بعض الحركات
،
فيها معان تكاد تنطق مترجمة ما بنفسه ... هذا في الأحوال العادية ...
فكيف إذا كانت معجزات
أرادها الله سبحانه وتعالى تهز قلوب الناس وعقولهم
وأحاسيسهم
؟
ألم يسمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصا
في يده الشريفة ؟
ألم يسمعوا أنين جذع الشجرة ،
ويرَوا ميله إليه عليه الصلاة والسلام حين
أنشأ
المسلمون له منبراً يخطب عليه ؟
وقد
كان يستند إلى الجذع وهو يخطب فعاد إليه ، ومسح عليه ، وقال له : ألا
ترضى أن تكون من أشجار الجنة ؟ فسكت ..
إذا كان الجماد والطير
صافات تسبح وتتكلم ، ولكن لا نفقه تسبيحها أفليس
الأقرب
إلى المعقول أن يتكلم الحيوان ؟...
اشتكى
بعير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلمَ صاحبه إياه ، وكلّم
الهدهدُ سليمانَ عليه السلام ، وسمع صوت النملة تحذّر
يغلقها من جيش سليمان
العظيم أن يَحْطِمها ، والله
سبحانه وتعالى – أولاً وأخيراً- قادر على كل
شيء ،
والرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يخبرنا ، ويحدثنا .
في صباح أحد الأيام بعد
صلاة الفجر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث
أصحابه
، ولم يكن فيهم صاحباه العظيمان – الصديقُ أبو بكر والفاروق عمر –
رضي الله عنهما ،
فلعلهما كانا في سريّة أو تجارة ... فقال :
بينما راع يرعى أغنامه ،
ويحوطها برعايته إذْ بذئب يعدو على شاة ، فيمسكها
من
رقبتها ، ويسوقها أمامه مسرعاً ، فالضعيف من الحيوان طعام القويّ منها –
سنة الله في مسير هذه
الحياة – وتسرع الشاة إلى حتفها معه دون وعي أو
إدراك
، فقد دفعها الخوف والاستسلام إلى متابعته ، وهي لا تدري ما تفعل .
ويلحق الراعي بهما –
وكان جَلْداً قويّاً – يحمل هراوته يطارد ذلك المعتدي
مصمماً
على استخلاصها منه ... ويصل إليهما ، يكاد يقصم ظهر الذئب . إلا أن
الذئب الذي لم يسعفه الحظ بالابتعاد بفريسته عن سلطان
الراعي ، وخاف أن
ينقلب صيداً له ترك الشاة
وانطلق مبتعداً مقهوراً ، ثم أقعى ونظر إلى
الراعي
فقال :
ها
أنت قد استنقذتها مني ، وسلبتني إياها ، فمن لها يومَ السبُع؟ !! يومَ
السبُع ؟!! وما أدراك ما يومُ السبُع ِ؟!! إنه يوم في علم
الغيب ، في
مستقبل الزمان حيث تقع الفتن ، ويترك الناس
أنعامهم ومواشيهم ، يهتمون
بأنفسهم ليوم جلل ،
ويهملونها ، فتعيث السباع فيها فساداً ، لا يمنعها منها
أحد
. .. ويكثر الهرج والمرج ، ويستحر القتل في البشر ، وهذا من علائم
الساعة .
قال
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متعجبين من هذه القصة ، ومِن حديث
الذئب عن أحداث تقع في آخر الزمان ، ومن فصاحته ، هذا
العجب بعيد عن
التكذيب ، وحاشاهم أن
يُكذّبوا رسولهم !! فهو الصادق المصدوق ، لكنهم
فوجئوا
بما لم يتوقعوا ، فكان هذا الاستفهام والتعجّبُ وليدَ المفاجأة لأمر
غير
متوقّع :
إنك
يا سيدنا وحبيبنا صادق فيما تخبرنا ، إلا أن الخبر ألجم أفكارنا ،
وبهتَنا
فكان منا العجب .
فيؤكد
رسولً الله صلى الله عليه وسلم حديثَ الذئب قائلاً :
أنا أومن بهذا ... هذا
أمر عاديّ ،فالإنسانُ حين يسوق خبراً فقد تأكد منه ،
أما
حين يكون نبياَ فإن دائرة التصديق تتسع لتشمل المصدر الذي استقى منه
الرسول الكريمُ هذه القصة ، إنه الله أصدق القائلين سبحانه
جلّ شأنُه .
ويا
لجَدَّ الصديق والفاروق ، ويا لَعظمة مكانتهما عند الله ورسوله ، إن
الإنسان حين يحتاج إلى من يؤيدُه في دعواه يستشهد بمن حضر
الموقعة ، ويعضّد
صدقَ خبره بتأييده ومساندته
وهو حاضر معه . لكنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم
المؤمن بعِظَم يقين الرجلين العظيمين ، وشدّة تصديق الوزيرين الجليلين
أبي
بكر وعمر له يُجملهما معه في الإيمان بما يقول ، ولِمَ لا فقد كشف
الله لهما الحُجُبَ ، فعمَر الإيمانُ قلبيهما وجوانحهما ،
فهما يعيشان في
ضياء الحق ونور الإيمان .
فكانا نعم الصاحبان ، ونعم الأخوان ، ونعم
الصديقان
لحبيبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريان ما يرى ، ويؤمنان
بما يقول عن علم ويقين ، لا عن تقليد واتباع سلبيّ.
فأبو بكر خير الناس بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، صدّقه حين كذّبه
الناسُ
، وواساه بنفسه وماله ، ويدخل الجنة من أي أبوابها شاء دون حساب ،
وفضلُه
لا يدانيه فضلٌ .
والفاروق
وزيره الثاني ، ولو كان بعد الرسول صلى الله عليه وسلم نبيٌّ لكان
عمر
. أعزّ اللهُ بإسلامه دينه ، ولا يسلك فجاً إلا سلك الشيطان فجّاً
غيره .
كانا
ملازمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وكثيراً ما كان عليه الصلاة
والسلام يقول :
ذهبت
أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر
وعمر .
فطوبى
لكما يا سيّديّ ثقةَ رسول الله بكما ، وحبَّه لكما ، حشرنا الله
معكما تحت لواء سيد المرسلين وخاتم النبيين .
وأتـْبَعَ الرسولُ
الكريمُ صلى الله عليه وسلم قصةَ الراعي والذئب بقصة
البقرة
وصاحبها ، فقال :
وبينما
رجل يسوق بقرة – والبقر للحَلْب والحرْث وخدمة الزرع – امتطى ظهرها
كما يفعل بالخيل والبغال والحمير ، فتباطأَتْ في سيرها ،
فضربها ،
فالتفتَتْ إليه ، فكلّمَتْه ، فقالت: إني
لم أُخلقْ للركوب ، إنما خلقني
الله للحرث ، ولا يجوز
لك أن تستعملني فيما لم أُخلقْ له .
تعجّب
الرجل من بيانها وقوّة حجتها ، ونزل عن ظهرها ...
وتعجب أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: سبحان الله ، بقرةٌ
تتكلم
؟!
قالوا
هذا ولمّا تزل المفاجأة الأولى في نفوسهم ، لم يتخلّصوا منها ...
فأكد القصة َ رسول ُ
الله صلى الله عليه وسلم حين أعلن أنه يؤمن بما يوحى
إليه
، وأن الصدّيق والفاروقَ كليهما – الغائبَين جسماً الحاضرَين روحاً
وقلباً وفكراً يؤمنان بذلك .
رضي الله عنكما أيها الطودان
الشامخان ، وهنيئاً لكما حبّ ُ رسول الله صلى
الله
عليه وسلم لكما وحبُّكما إياه .
اللهمّ
إننا نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ، فارزقنا صحبة رسول الله وأبي
بكر وعمر ، يا رب العالمين ....
البخاري مجلد – 2
جزء
– 4
كتاب بدء الخلق ، باب فضائل الصديق وعمر
القصة
الثالثة
تلك
إذاً قسمة " صحيحة "
دخلت
حسناء
البيت مسرعة ، فوجدت أمها ترتب الطعام على
المائدة ، فبعد قليل يأتي والدها
من العمل متعباً ،
فيأكل ثم يصلي ليرتاح قليلاً قبل زيارة الجدة ، فشرعت
في
مساعدة أمها ، وأخبرتها أن معلمتها ذكرت لها قصة الحلاّبة وابنتها،
فأعجبت
بالبنت ونزاهتها وحسن إيمانها ، ورغبت أن تكون مثلها في التزامها
آداب هذا الدين العظيم والتمسّك بأهدابه .... ولم تنتظر أن
تطلب أمها أن
تقص عليها قصتها ، فبدأت تقول :
إن الفاروق عمر رضي
الله عنه خليفة المسلمين انطلق وخادمُه يعُسّ طرقات
المدينة
، ويتفقد أمور المسلمين ، فسمع امرأة تقول لابنتها : يا بنيّة
امزقي ( اخلطي وامزجي )اللبن بالماء – كي يكثر فيزداد
الربح- فقالت البنت
لأمها : أم تعلمي أن أمير
المؤمنين حذرنا من الغش، ومنع مزج الحليب بالماء
؟!
قالت لها أمها : وأين منا أمير المؤمنين ؟ ... ردت البنت قائلة : إن كان
أمير
المؤمنين لا يرانا فربه سبحانه يرانا !...
أُعجب الفاروق بدين
الفتاة وكريم خُلُقها ، وأمر صاحبه أن يضع علامة على
البيت
، وقال له : ايتني بخبر أهل الدار
...
وفي الصباح قال خادمه : إنها امرأة تبيع
الحليب وابنتها . فسأل الخليفة
ابنه عاصماً : هل لك في
زوجة صالحة ؟ قال : نعم . فزوجه منها . فكانت هذه
الزوجة
الصالحةُ جدةََ الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز.
فرحت الأم بابنتها ،
وقبّلتها ، وقالت: إنّ السُّحت يا ابنتي لا بركة فيه ،
ويُردي
صاحبه في النار ، والحلال يرفع شأن صاحبه في الدنيا ، ويهديه إلى
الجنة .
إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم روى لأصحابه قصة مشابهة لما رويتِ ،
سأقصها
عليك الآن ونحن نرتب الطعام على المائدة قبل أن يصل والدك .
تعلمين يا حسناء أن
الخمر لم يكن محرّماً في أول الإسلام ، ثم بدأت الدائرة
تضيق
على تناوله حتى حرّمه الله تعالى في قوله سبحانه " يا أيها الذين
آمنوا ، إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل
الشيطان ،
فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إنما يريد الشيطان
أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء
في الخمر والميسر ،
ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؟ "
قالوا : انتهينا ، يا
رب ، انتهينا .
ولعله
كان في الأمم السابقة غير محرّم كذلك .
فقد انطلق رجل بسفينته في
النهر ، يقف على هذه القرية وتلك القرية ، وهذا
الحي
وذاك ، يبيع الخمر للناس . وكان غشّاشاً ، يخلط الخمر بالماء ليزداد
بيعه ، فيزداد ربحه . وكثير من الناس في أيامنا هذه يفعل
مثله ظنّاً منهم –
وهذا
قلة في الدين ، وضعف في اليقين – أنهم يسرعون في الثراء ، فيَشـُوبون
الجيد
بالرديء ، او يمزجون المتقاربين في النوع ليجنوا المال الكثير
بالطرق غير المشروعة ، فيخسرونه وأضعافه بطرق لا يشعرون
بها ، فقد تكون
المرضَ ، أو السرقةَ أو
الضياعَ أو الإسرافَ أو النكدَ في الحياة الذي يطغى
على
كثرة المال ، فيفقدُ الإنسانُ الراحة وطعم السعادة .. وهذا كلُّه لا
يساوي شيئاً أمام عذاب الله تعالى وغضبه ... فما نبت من
سحت فالنار أولى به
.
باع
الرجل " الخمر المائيّ" ، ووضع الدنانير في كيسه ، وانطلق بسفينته
عائداً إلى بيته ، والسعادة تملأ نفسه ، والأمل في جمع
ثروة كبيرة يراوده .
وبينما
هو في أحلامه ، وقردُه إلى جانبه يقفز هنا وهناك اختطف القردُ
الكيسَ ، وصعِد به إلى سارية السفينة . فانخلع قلب التاجر
لمصير الكيس ،
فقد يطيح به القرد في الماء ،
فيخسر تجارته وأحلامه الوردية التي خامرَتْه .
وقد يفتحه ، فتتساقط
بعض الدنانير في الماء ، ويغيب بعضها في ثنايا
الألواح ....
أيها القرد ؛ أيها
القرد؛ بالله عليك انزل . فلما لم ينزل ناداه : ارم
الكيس
إليّ بهدوء ، ولا تفجعني في مالي
...
لم يفهم القرد توسّلَه ، بل تمكّن من جلسته
أعلى السارية ، وحلَّ رباطَ
الكيس ...؛ نظر في
داخله ...؛ مدّ يده إلى الدنانير الذهبيّة ، فأخرج
ديناراً
، وقلّبَه بيده كأنه يروزه ( يختبره ويتعرّفه) ثم ألقاه أسفل منه ،
فسقط
في السفينة ، فابتدره التاجر ... ورفع رأسه إلى حيث يجلس القرد ...
كان التاجر متوثّباً
مشدودَ الأعصاب .. لقد مدّ القرد يدَه إلى الكيس ،
وأخرج
ديناراً قلّبه بيده ، فاستعدّ التاجر لتلقّيه .. ليس في الأمر حيلة
سوى ذلك ، لقد ترك دفّة السفينة ليتفرّغ للالتقاط الدنانير
.... يا ويح
التاجر ، لقد رمى القرد
الدينار في الماء بين الأمواج ، ورمى التاجر رأسه
على
عمود السارية من الغيظ والقهر .. وعاد ينظر بتوسّل ظاهر إلى القرد ،
ولكنْ
هذه المرة دون أن يناديه ، إذ انعقد لسانه .. فرمى القرد إليه
ديناراً ، فأسرع إلى التقاطه ، ورمى الدينار الرابع إلى
الماء ... يا ويحه ،
ما عادت رجلاه تحملانه .. سقط
على الأرض ، وعيناه متعلقتان بالقرد وصنيعه
...
ازدادت
سرعة يد القرد ، واستمر التوزيع العادل في القسمة .. دينارٌ يٌرمى
على السفينة ، وآخر يُلقى إلى الماء .... وفرغ الكيس ،
ونزل القردُ ... أخذ
التاجر نصيبَه من ثمن الخمر ،
وأخذ النهر نصيبه من ثمن الماء الممزوج
بالخمر ...
أليست القسمة صحيحة ،
والقردُ قاضياً عادلاً ، وحكَماً نزيهاً ؟! !
وقد نال التاجر نصيبه
من الحزن والألم في الدنيا . وسينال جزاءَه في الآخرة
ناراً
تلَظّى ، لا يصلاها إلا الأشقى .. هذا إذا لم يتق الله تعالى ،
ويتـُب
، ويعفُ الكريمُ عنه.
مسند
الإمام أحمد ج2ص306
القصة
الخامسة :
العمل
الصالح يُنجي صاحبه
قاربت
الشمس على المغيب ، وبدأ الظلام يرسل أول خيط له مازج الضوء الباهت
الذي آذن بالرحيل ، وبدأت الأنسام الباردة تخترق ثياب
هؤلاء النفرالثلاثة
الجادّين في السير ، يريدون
أن يصلوا إلى أقرب مأوى يقضون فيه ليلتهم هذه ،
ثم
يتابعون رحلتهم إلى هدفهم .
كانوا
بعيدين عن القرى مسافات كبيرة ، قدّروا أنهم لن يستطيعوا الوصولَ إلى
أوّلها
إلا بعد ساعات من مسير ليليّ غير محمود العواقب ، فقد يقعون في
حفرة ، أو يدعمهم سيل جارف ، أو يَفجؤهم مطر منهمر ، أو
وحوش كاسرة ....
والليل
لا عيون له ، والنهار آمَنُ وآنَسُ. فليبحثوا إذاً عن أقرب مكان
يلوذون به ...
ولم
يطل بهم البحث ، فعلى مدىً يسير منهم ظهرت فجوة ترتفع عما حولها قليلاً
... فجدّوا السير إليها ،
وكانت مناسبة لهم ، ما إن دخلوها حتى شعروا
بالدفء
يسري في أوصالهم ، والهدوءِ يَحوطهم ، والعتَمة تزحف عليهم ،
فاستسلموا
لنوم لذيذ . وما ألذّ النوم بعد التعب ، والسكونَ بعد الحركة ...
وغرقوا في أحلام وردية ،
وتخيّلوا أنفسهم في مرابعهم ، وبين أهليهم ، ولم
يشعروا
بما كان خارج كهفهم من ريح اشتدّت حاملةً السحاب الماطر الذي أغرق
المكان حولهم ، وحفر تحت صخرة كبيرة كانت أعلى الكهف ،
فتدحرجت بكلكلها ،
لتستقر على باب الكهف ،
فتوقعَهم في مأزق لا خلاص منه إلا أن يشاء الله .
بدأت الشمس ترسل أشعتها
إلى الكهف من خلال فجَوات صغيرة تدغدغ النائمين ،
وتوقظهم
برفق ولطف ، وكأنها تقول لهم : يكفيكم ما أنتم عليه من غفلة ،
قوموا
لتبحثوا عن خلاص من هذه المصيبة التي حلّت ، لا تدرون ما الله فاعل
بكم إذا ثبتَتْ في مكانها ... هيا انهضوا فادفعوها ،
واسألوا الله العون ،
والتمسوا رحمته .
إنهم يتحركون ، لقد
شرَعت الحياة تدب فيهم ، فتمددت أوصالهم هنا وهناك يمنة
ويسْرة
، فحمد أولهم ربّه أن أحياه بعد ما أماته – ولمّا يقم – وشكر
الثاني ربّه على نعمة الأمن والأمان – ولمّا يفتحْ عينيه –
وصلى الثالث على
موسى وهارون اللذَين هداه
الله بهما بعد أن ذكر الله ونهض ... ولكن أين
النور
المنبثق ؟ أين الضياء يملأ المكان؟ .. كلها تساؤلات فرضتْها اللحظة
التي رأى جوّ الكهف فيها خانقاً ... هيّا يا صاحبيّ ، أنا
عاجز عن فهم ما
جرى ... نطقها سريعاً ، فقفزا
فوراً كأنهما في سباق ، يستكشفان ما حلّ بهم ،
ويتعرّفان
الموقف ، ففوجئا بما فوجئ به صاحبهما آنفاً .
اندفع أحدهما نحو
الصخرة ليبعدها عن الباب ، فارتدّ خائباً ... عاود الأمرَ
فانتكس
، جرّب صاحباه ، فلم يُفلحا ، وأنّى لمخلوق ضعيف أن يزحزح وتداً
عظيماً من أوتاد الأرض ؟!
تكاتف الثلاثة وأجمعوا
قوّتهم ، وهاجموا الصخرة بعنف ارتدّوا عنها بمثله ،
أو
أشدّ . فلما يئسوا من زحزحتها ، ورأوا الموت المرعب يُطِلّ عليهم من بين
فروضها
عادوا إلى أنفسهم يفكّرون ، وعن مخرج مما هم فيه يبحثون .
وشاء الله الرحيم
بعباده أن ينجّيَهم ، فألهمهم الدعاء له ، والالتجاء إليه
. أليس سبحانه هو القائل :
" وقال ربكم ادعوني أستجِبْ لكم "؟ ! .. بلى
والله
.. يا من يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء ؛ نجِّنا برحمتك يا
أرحم الراحمين .
وبدا
الثلاثة يجأرون بالدعاء ، وكانوا صالحين ، فهداهم الله أن يسألوه
بأفضل أعمالهم الخالصة لوجهه الكريم ، التي ليس فيها
مُراءاة ، ولايبغون
بها سوى رضا الله وجنّته .
قال رجل منهم : كنت
بارّاً بوالديّ ، أكرمهما ، وأفضّلهما على أولادي
وزوجتي
، وأجتهد في خدمتهما . وعرف أهلي فيّ ذلك فساعدوني . وكان من عادتي
أن أسقيهما الحليب عِشاءً قبل الجميع ، فتأخّرت مرة في
حقلي ، أقلّم
الأشجار وأعتني بالزرع ، ثم
رُحت أحلب غبوقهما ، وانطلقتُ أسقيهما ،
فوجدتهما
نائمَين ، فكرهت ان اوقظهما ، وان أغبق قبلهما أحداً من الأهل
والرقيق ، والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى بزغ الفجر ،
والصبية حولي
يتضاغَون من الجوع ، ويصيحون
عند قدمي ، وهم فلذة كبدي ، فتشاغلتُ عنهم حتى
استيقظا
فشربا غبوقهما ، ثم سقيت أهلي وخدمي .... اللهم إن كنتُ فعلتُ هذا
ابتغاء
وجهك الكريم ففرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة .. فانفرجت الصخرة
شيئاً
لا يستطيعون الخروج منه .
وقال
الثاني : أما أنا فقد كنت ميسور الحال ، أحيا رغداً من العيش ، وليَ
ابنة عمّ جميلة المُحيّا ، بهيّة الطلعة ، أحبها ، وأرغب
فيها ، فراودْتها
عن نفسها ، فأبَتْ ، وبذلتُ
لها المال ، فتمنّعتْ ، أغريتها بشتّى الوسائل ،
فلم
أنل منها ما أبتغي . فحبست ألمي وحسرتي في نفسي ، لا أنفرج إلا إذا
نلتُها . ثم واتت الفرصة إذ جاءتني في سنة جديبة تطلب
المساعدة من ابن
عمّها على فقرها ، فراودتني
نفسي على إغوائها ، واغتنمت حاجتَها وبؤسَها ،
فأعطيتها
مئة وعشرين ديناراً على أن تخلّيَ بيني وبين نفسها ، ففعَلَتْ ...
يا لهف نفسي ، ويا
سعادتي ، إنني قاب قوسين أو أدنى إلى اجتناء ثمرة صبري
... هاهي بين يدَيّ ، بل
إنني منها مقام الزوج مكان العفة من زوجته ،
والشهوة
تنتفض في كل ذرّة من جسمي ... قالت والدمع يملأ مآقيها ، والحزن
يتملّكها : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقّه . فالاتصال
الزوجي قمة
السعادة ، والحلال مَراحُ النفس وأُنسُ
الروح ، أما الزنا فلذّة اللحظة ،
وندم
الحياة ، وذلّ الآخرة . .. دقّ قلبي رافضاً ، وختلجت أوصالي آبية
الوقوع في الإثم ، ورأيتُ بعينَيْ قلبي غضب ربي ، فقمت
عنها منصرفاً ،
وتركت لها المال راغباً في
عفو الله ومرضاته . .. اللهم ؛ إن كنتُ فعلت ذلك
ابتغاء
وجهك الكريم فافرُج عنا ما نحن فيه .... فانفرجت الصخرة ، غير أنهم
لا
يستطيعون الخروجَ منها .
وتقدّم
الثالث ، فقال : اشتغل عندي عدد من الأُجراء ، وأعطيتُهم أجرَهم غير
واحدٍ
ترك أجره وذهب . فقلت : في نفسي : قد ترك الأجير حقه ، فانا أولى به
. وقال لي الشيطان : ليس
له عندك شيء .. وتحرك الإيمان في قلبي ، فأمرني
أن
أحتفظ بأجره ليأخذه إن عاد ... ارتحت لهذا القرار ، فأمرني إيماني ثانية
حين
رأى تجاوبي للخير : بل ثمّر له أجره . .. فأشركتُه في عملي حتى كثرت
الأموال والإبل والبقر والغنم والرقيقُ ، وملأ المكانَ .
فجاءني بعد حين
فقال : يا عبد الله ؛ أدِّ
إليّ أجري . فقلت : كلّ ما ترى في هذا الوادي لك
،
فخذه . فقال الأجير : أتهزأ بي ؟! أهذا جزائي منك حين انشغلتُ ابتداءً
فلم آخذ حقي ؟! فقلت له : إني لا أستهزئ بك ... وأخبرتُه
أنني جادٌّ في
قولي ، فقد ثمّرتُ أجره .
فلما وثقَ صدقَ حديثي أخذ ماله وانطلق ، فاستاقه ،
ولم
يترك منه شيئاً . .. اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك ، فافرج عنا
ما نحن فيه .. فانفرجت الصخرة ، فخرجوا يمشون .
متفق عليه رياض
الصالحين ، باب التوبة