الأزمة التي وقعت هذا الأسبوع بين السعودية ومصر كاشفة عن مدى التصدع الذي يعاني منه البيت العربي ومدى الوهن الذي أصاب علاقات الأشقاء.
(1)
ما خطر ببال أحد أن يؤدي حادث احتجاز أحد المحامين المصريين المعتمرين في مطار جدة إلى إطلاق حملة احتجاجات في القاهرة. ترددت أصداؤها في وسائل الإعلام المختلفة، ثم أن ينتهي الأمر بسحب السفير السعودي وإغلاق القنصليات في مصر، الأمر الذي يلوح باحتمال قطع العلاقات بين اثنين من أهم الأقطار العربية، ولأول وهلة يبدو الأمر وكأنه فرقعة سياسية انطلقت من حيث لا يحتسب أحد.
إذ كان الانفعال والغضب واضحين في القرار السعودي، بقدر ما أن رد الفعل من الجانب المصري اتسم بالتعجل والعبثية من ناحية وبالبعد عن اللياقة من ناحية ثانية. إلا أننا ينبغي أن نلاحظ هنا أن الموقف السعودي كان قرار دولة. اعتادت أن تتصرف بهدوء وروية وتعتمد سياسة النفس الطويل في أغلب الأحوال، من ثم فإن الانفعال يعد موقفا استثنائيا يعطي انطباعا بأن غضب الرياض تجاوز معدلاته العادية. بالمقابل فإن رد الفعل المصري إزاء الحدث كان شعبيا وإعلاميا ولم يكن رسميا، وليس بعيدا عن التأثر بأجواء الهرج التي تسود مصر منذ قيام الثورة بما استصحبته من علو للصوت وجرأة في التعبير.
لست في مقام تحري خلفيات القرار السعودي المفاجئ، ولكن بوسعنا أن نتحدث عن الأصداء المصرية التي شهدناها خلال الأيام العشرة الأخيرة وفي حدود علمي فإن الشرارة الأولى التي فجرت تلك الأصداء تمثلت في الشائعات التي ذاعت في أوساط الناشطين وتحدثت عن تعمد سلطات مطار جدة احتجاز المحامي المصري، تأديبا له على مواقف سابقة كان قد اتخذها في مواجهة ممارسات النظام السعودي.
كما تحدثت عن أن حكما صدر بحبس المحامي لمدة سنة وتعريضه لعقوبة الجلد. هذه المعلومات تعامل معها كثيرون باعتبارها حقائق ولم يحاول أحد أن يتثبت من دقتها، الأمر الذي أطلق صورا مختلفة من تجليات الاحتجاج والغضب، كان بينها الضجر الذي شهدته نقابة المحامين المصريين، والتظاهر أمام السفارة السعودية بالقاهرة، ورشقها من قبل البعض، أما أسوأها على الإطلاق فقد كان التناول الإعلامي الذي لم يخل من تطاول وتجريح، ولم يسلم منه أحد من المسؤولين السعوديين، بدءا من السفير في القاهرة إلى الملك في الرياض.
وهو تطاول مارست فيه بعض الصحف المصرية ما نعرفه عنها من خفة في التقييم وبذاءة في التعبير. وتلك رذيلة ينبغي أن نعترف بأنها تعد من السوءات التي أصبحت تلصق بالإعلام المصري جراء ممارسات بعض الصحف الصفراء التي تعتمد الإثارة الرخيصة وبعض الأقلام التي اخترقت الساحة الإعلامية في غفلة من الزمن، دون أن تتمكن من تقاليد المهنة أو آداب الحوار مع المخالفين. وكانت النتيجة أن عددا غير قليل من حملة الأقلام المحدثين لم يتعلموا كيف يفرقون بين النقد و"الردح".
(2)
إذا نظرنا إلى وقائع الحدث من زاوية تفاصيلها، فسنجد أنها زوبعة في فنجان، أو حبَّة تحولت إلى قبة، وإذا وضعنا في الاعتبار أجواء ما بعد الثورة، وأدركنا أن بعض ما وجه إلى القادة السعوديين من أوصاف وعبارات خشنة يوجهه البعض إلى رموز الحكم في مصر، فربما أسهم ذلك في احتواء الموضوع من خلال الاكتفاء بالعتاب الهادئ عبر قنوات الاتصال المفتوحة بين القاهرة والرياض، إلا أنني لا أستطيع أن أفصل رد الفعل السعودي السريع والغاضب عن أجواء الحساسية المخيمة على منطقة الخليج إزاء الثورة المصرية وغيرها من مظاهر ما سمي بالربيع العربي حتى أزعم أن هذا الذي حدث لو أنه وقع في ظروف أخرى وسياق مغاير لعولج بأسلوب آخر أكثر هدوءا ورصانة.
إن استياء أغلب الدول الخليجية من التحول الذي أحدثته الثورة في مصر وغيرها من دول الربيع العربي بات معلوما للكافة. وهذا الاستياء يلمسه أبناء تلك الدول الذين يعيشون في منطقة الخليج. وهم الذين يعانون من التضييق في تجديد عقود العمل وفي الإقامة والزيارات، إضافة إلى أن بعضهم سحبت منهم الجنسية التي منحت لهم بعدما طالت إقامتهم هناك، وأمضوا سنوات عمرهم في بناء الدول الخليجية وتطويرها.
تجلت مشاعر الاستياء أيضا في موقف أغلب الدول الخليجية من الاستثمار في دول الربيع العربي والحكايات التي تروى في هذا الصدد كثيرة. فقد وعدت مصر باستثمارات قدرت بعشرة مليارات من الدولارات، لكنها لم تتلق سوى مليار واحد من دولتين خليجيتين. وكانت قد رتبت زيارة لمسؤول خليجي كبير سبقته اتصالات تحدثت عن تقديم أربعة مليارات دولار. لكنه في اللحظة الأخيرة تلقى تعليمات بالاكتفاء بالحديث عن نصف مليار فقط. وهناك إشارات تحدثت عن حظر استثماري خليجي على دول الربيع إلا أن إحدى الدول قدمت قرضا لتونس بفائدة 2.5٪، لكن اليابان قدمت قرضا مماثلا بفائدة 1.5٪ فقط (!).
وفي حدود علمي فإن بعض المسؤولين الأميركيين ينقلون إلى القاهرة بين الحين والآخر ما يسمعونه من انطباعات سلبية وانتقادات حادة لمصر بسبب انقلاب شعبها على الرئيس السابق يتحدث بها بعض القادة الخليجيين. وتتناقل الدوائر الدبلوماسية قصد هجوم وتحريض أحد وزراء الخارجية الخليجيين على مصر أثناء اجتماع عقد في لبنان الشهر قبل الماضي، واتهامها بأنها أصبحت مصدرا لعدم الاستقرار في العالم العربي.
ومعروف أن دول الربيع العربي المؤيدة للثورة السورية، تعارض موقف دول الخليج الذي يضغط بشدة لتسليح المقاومة السورية بما يفتح الباب لإشعال نار الحرب الأهلية هناك. وهو ما تجلى في القمة العربية التي عقدت أخيرا في بغداد، التي رفضت الفكرة خلالها. فما كان من بعض الدول الخليجية إلا أن دعت إلى اجتماع لمجلس التعاون الخليجي دعا إلى تسليح المقاومة، وتولت تلك الدول لاحقا تمويل عملية التسليح التي تمت من خلال الأردن.
لم يقف الأمر عند حدود الموقف السلبي والناقد الذي اتخذته أغلب الدول الخليجية إزاء الثورات العربية، وإنما لجأ بعضها إلى محاولة التأثير على موازين القوى في داخل تلك الدول بدعوى الحد من نفوذ تيارات التطرف وتعزيز مواقف قوى الاعتدال. وتشهد ليبيا الآن جهدا ملموسا من ذلك القبيل. وهناك معلومات تتحدث عن تدخل دول أخرى لدعم بعض المرشحين في الانتخابات الرئاسية في مصر لترجيح كفتهم في مواجهة منافسيهم.
(3)
إذا نظرنا إلى المشهد من منظور أوسع فسنجد أن العالم العربي في وضعه الراهن يتعرض لحالة من السيولة التي تقترن فيها يقظة الشعوب بتفكيك الدول. إذ في الوقت الذي هبت فيه رياح الثورة والغضب الشعبي الذي ترددت أصداؤه في كل مكان، وجدنا أن دوله تتعرض لتهديدات وزلازل تهدد وحدتها أو وجودها.
(1)
ما خطر ببال أحد أن يؤدي حادث احتجاز أحد المحامين المصريين المعتمرين في مطار جدة إلى إطلاق حملة احتجاجات في القاهرة. ترددت أصداؤها في وسائل الإعلام المختلفة، ثم أن ينتهي الأمر بسحب السفير السعودي وإغلاق القنصليات في مصر، الأمر الذي يلوح باحتمال قطع العلاقات بين اثنين من أهم الأقطار العربية، ولأول وهلة يبدو الأمر وكأنه فرقعة سياسية انطلقت من حيث لا يحتسب أحد.
إذ كان الانفعال والغضب واضحين في القرار السعودي، بقدر ما أن رد الفعل من الجانب المصري اتسم بالتعجل والعبثية من ناحية وبالبعد عن اللياقة من ناحية ثانية. إلا أننا ينبغي أن نلاحظ هنا أن الموقف السعودي كان قرار دولة. اعتادت أن تتصرف بهدوء وروية وتعتمد سياسة النفس الطويل في أغلب الأحوال، من ثم فإن الانفعال يعد موقفا استثنائيا يعطي انطباعا بأن غضب الرياض تجاوز معدلاته العادية. بالمقابل فإن رد الفعل المصري إزاء الحدث كان شعبيا وإعلاميا ولم يكن رسميا، وليس بعيدا عن التأثر بأجواء الهرج التي تسود مصر منذ قيام الثورة بما استصحبته من علو للصوت وجرأة في التعبير.
لست في مقام تحري خلفيات القرار السعودي المفاجئ، ولكن بوسعنا أن نتحدث عن الأصداء المصرية التي شهدناها خلال الأيام العشرة الأخيرة وفي حدود علمي فإن الشرارة الأولى التي فجرت تلك الأصداء تمثلت في الشائعات التي ذاعت في أوساط الناشطين وتحدثت عن تعمد سلطات مطار جدة احتجاز المحامي المصري، تأديبا له على مواقف سابقة كان قد اتخذها في مواجهة ممارسات النظام السعودي.
كما تحدثت عن أن حكما صدر بحبس المحامي لمدة سنة وتعريضه لعقوبة الجلد. هذه المعلومات تعامل معها كثيرون باعتبارها حقائق ولم يحاول أحد أن يتثبت من دقتها، الأمر الذي أطلق صورا مختلفة من تجليات الاحتجاج والغضب، كان بينها الضجر الذي شهدته نقابة المحامين المصريين، والتظاهر أمام السفارة السعودية بالقاهرة، ورشقها من قبل البعض، أما أسوأها على الإطلاق فقد كان التناول الإعلامي الذي لم يخل من تطاول وتجريح، ولم يسلم منه أحد من المسؤولين السعوديين، بدءا من السفير في القاهرة إلى الملك في الرياض.
وهو تطاول مارست فيه بعض الصحف المصرية ما نعرفه عنها من خفة في التقييم وبذاءة في التعبير. وتلك رذيلة ينبغي أن نعترف بأنها تعد من السوءات التي أصبحت تلصق بالإعلام المصري جراء ممارسات بعض الصحف الصفراء التي تعتمد الإثارة الرخيصة وبعض الأقلام التي اخترقت الساحة الإعلامية في غفلة من الزمن، دون أن تتمكن من تقاليد المهنة أو آداب الحوار مع المخالفين. وكانت النتيجة أن عددا غير قليل من حملة الأقلام المحدثين لم يتعلموا كيف يفرقون بين النقد و"الردح".
(2)
إذا نظرنا إلى وقائع الحدث من زاوية تفاصيلها، فسنجد أنها زوبعة في فنجان، أو حبَّة تحولت إلى قبة، وإذا وضعنا في الاعتبار أجواء ما بعد الثورة، وأدركنا أن بعض ما وجه إلى القادة السعوديين من أوصاف وعبارات خشنة يوجهه البعض إلى رموز الحكم في مصر، فربما أسهم ذلك في احتواء الموضوع من خلال الاكتفاء بالعتاب الهادئ عبر قنوات الاتصال المفتوحة بين القاهرة والرياض، إلا أنني لا أستطيع أن أفصل رد الفعل السعودي السريع والغاضب عن أجواء الحساسية المخيمة على منطقة الخليج إزاء الثورة المصرية وغيرها من مظاهر ما سمي بالربيع العربي حتى أزعم أن هذا الذي حدث لو أنه وقع في ظروف أخرى وسياق مغاير لعولج بأسلوب آخر أكثر هدوءا ورصانة.
إن استياء أغلب الدول الخليجية من التحول الذي أحدثته الثورة في مصر وغيرها من دول الربيع العربي بات معلوما للكافة. وهذا الاستياء يلمسه أبناء تلك الدول الذين يعيشون في منطقة الخليج. وهم الذين يعانون من التضييق في تجديد عقود العمل وفي الإقامة والزيارات، إضافة إلى أن بعضهم سحبت منهم الجنسية التي منحت لهم بعدما طالت إقامتهم هناك، وأمضوا سنوات عمرهم في بناء الدول الخليجية وتطويرها.
تجلت مشاعر الاستياء أيضا في موقف أغلب الدول الخليجية من الاستثمار في دول الربيع العربي والحكايات التي تروى في هذا الصدد كثيرة. فقد وعدت مصر باستثمارات قدرت بعشرة مليارات من الدولارات، لكنها لم تتلق سوى مليار واحد من دولتين خليجيتين. وكانت قد رتبت زيارة لمسؤول خليجي كبير سبقته اتصالات تحدثت عن تقديم أربعة مليارات دولار. لكنه في اللحظة الأخيرة تلقى تعليمات بالاكتفاء بالحديث عن نصف مليار فقط. وهناك إشارات تحدثت عن حظر استثماري خليجي على دول الربيع إلا أن إحدى الدول قدمت قرضا لتونس بفائدة 2.5٪، لكن اليابان قدمت قرضا مماثلا بفائدة 1.5٪ فقط (!).
وفي حدود علمي فإن بعض المسؤولين الأميركيين ينقلون إلى القاهرة بين الحين والآخر ما يسمعونه من انطباعات سلبية وانتقادات حادة لمصر بسبب انقلاب شعبها على الرئيس السابق يتحدث بها بعض القادة الخليجيين. وتتناقل الدوائر الدبلوماسية قصد هجوم وتحريض أحد وزراء الخارجية الخليجيين على مصر أثناء اجتماع عقد في لبنان الشهر قبل الماضي، واتهامها بأنها أصبحت مصدرا لعدم الاستقرار في العالم العربي.
ومعروف أن دول الربيع العربي المؤيدة للثورة السورية، تعارض موقف دول الخليج الذي يضغط بشدة لتسليح المقاومة السورية بما يفتح الباب لإشعال نار الحرب الأهلية هناك. وهو ما تجلى في القمة العربية التي عقدت أخيرا في بغداد، التي رفضت الفكرة خلالها. فما كان من بعض الدول الخليجية إلا أن دعت إلى اجتماع لمجلس التعاون الخليجي دعا إلى تسليح المقاومة، وتولت تلك الدول لاحقا تمويل عملية التسليح التي تمت من خلال الأردن.
لم يقف الأمر عند حدود الموقف السلبي والناقد الذي اتخذته أغلب الدول الخليجية إزاء الثورات العربية، وإنما لجأ بعضها إلى محاولة التأثير على موازين القوى في داخل تلك الدول بدعوى الحد من نفوذ تيارات التطرف وتعزيز مواقف قوى الاعتدال. وتشهد ليبيا الآن جهدا ملموسا من ذلك القبيل. وهناك معلومات تتحدث عن تدخل دول أخرى لدعم بعض المرشحين في الانتخابات الرئاسية في مصر لترجيح كفتهم في مواجهة منافسيهم.
(3)
إذا نظرنا إلى المشهد من منظور أوسع فسنجد أن العالم العربي في وضعه الراهن يتعرض لحالة من السيولة التي تقترن فيها يقظة الشعوب بتفكيك الدول. إذ في الوقت الذي هبت فيه رياح الثورة والغضب الشعبي الذي ترددت أصداؤه في كل مكان، وجدنا أن دوله تتعرض لتهديدات وزلازل تهدد وحدتها أو وجودها.